لم يعد العنف المدرسي يُنظر إليه على أنه مجرد شجار عابر بين التلاميذ، بل أصبح ظاهرة اجتماعية معقدة تحمل أبعاداً خطيرة، تؤثر سلباً على جودة التعليم، وتُعيق قدرة المدرسة على تحقيق رسالتها التربوية في توفير بيئة آمنة للتكوين، يتجلى هذا العنف في أشكال متعددة (لفظي، جسدي، نفسي، إهمال، تحرش، تنمر)، وهو مشكلة لا يمكن معالجتها إلا من خلال مقاربة شاملة وتشاركية بين جميع الفاعلين.
فهرس المقال
1. الركيزة المؤسساتية: التنسيق والتعبئة الشاملة
تُعدّ مكافحة العنف مقاربة تشاركية بامتياز، ولا يمكن أن تنجح أي جهة بمفردها، لذا تضطلع المؤسسات التعليمية بمهام هيكلية وإدارية لضمان التنسيق:
أ. المركز الوطني للرصد والمناهضة
- التأسيس والدور: يتم إنشاء مركز وطني للوقاية ومناهضة العنف بالوسط المدرسي تحت إشراف وزارة التربية الوطنية، هذا المركز هو آلية للتنسيق والتعاون بين المؤسسات التعليمية والجهات الحكومية المعنية.
- المهام: رصد وتتبع جميع حالات العنف، وتجميع المعطيات، وتحديد الحاجات في مجال التكوين، ووضع قاعدة معطيات حول الظاهرة.
ب. مجالس المؤسسة وآليات الرصد
تُعتبر مجالس المؤسسة (كمجلس التدبير والمجلس التربوي) هي الآلية التنظيمية الداخلية الرئيسية لمناهضة العنف.
- الإشراف والتتبع: يقوم رئيس المؤسسة (المدير) بالإشراف على عملية التتبع والوساطة، ويضع برنامج عمل سنوي للوقاية من العنف ضمن مشروع المؤسسة.
- خلايا الإنصات والوساطة: هي بنيات داخل المؤسسة تتكون من المدير وأساتذة متطوعين، وتقدم دعماً نفسياً للضحايا، وتعمل كوسيط لحل النزاعات البسيطة.
2. المقاربة الثلاثية: الوقاية، التدخل، المعالجة
تعتمد استراتيجية المكافحة على ثلاثة أبعاد متكاملة لضمان بيئة مدرسية آمنة وذات جودة:
أ. الجانب الوقائي (الاستباق)
الوقاية هي الخطوة الأولى لتفادي المشكلة من جذورها:
- التربية على القيم: دمج ثقافة التسامح، احترام حقوق الطفل، والتربية على المواطنة وحل النزاعات في المنهاج الدراسي وفي الأنشطة الموازية.
- التنشيط المدرسي: إدماج التلاميذ وتحفيزهم على الانخراط في الأندية التربوية (الفنية، الرياضية، الثقافية) لـ شغلهم قبل أن يشغلوك، وتوجيه طاقاتهم الزائدة إلى أنشطة نافعة.
- التكوين: تدريب المدرسين والموظفين على مهارات التواصل الفعّال وحسن إدارة المواقف الصعبة، واكتشاف المواهب.
ب. التدخل الفوري والمعالجة (المواجهة)
عند وقوع حالة العنف، يجب أن يكون هناك تدخل حازم ومخطط له:
- رصد الحادث وتوثيقه: يجب على خلية الإنصات أو الهيئة التربوية رصد حالة العنف وتوثيقها بدقة لتحديد الإجراء المناسب.
- التدخل الفوري والإيقاف: اتخاذ إجراءات فورية لإيقاف الحدث والحدّ منه.
- العقوبات البديلة (التربوية): تطبيق سياسة الوقاية قبل العقوبة، يجب على مجالس الأقسام أن تلتزم بالعقوبات البديلة (مثل الخدمات المجتمعية كـ ترتيب المكتبة أو المساعدة في الأنشطة الرياضية) بدلاً من الطرد أو التوقيف المؤقت، لضمان استمرار المتعلم في بيئة التعلم.
ج. الدعم والمرافقة (ما بعد الحادث)
- الدعم النفسي والاجتماعي: مرافقة الطالب المتضرر ودعمه بواسطة المختصين في المدرسة (كـ مستشار التوجيه).
- المعالجة الجذرية: إجراء محادثات توضيحية مع الطلاب المتورطين (بشكل منفصل عند الضرورة)، والعمل على معالجة مشاكلهم الأسرية أو الاجتماعية التي قد تكون سبباً في سلوكهم العنيف.
3. دور الشراكة المجتمعية والقانون
لا تقتصر مسؤولية مكافحة العنف على المدرسة وحدها، بل تمتد لتشمل المجتمع بأكمله:
- التشبيك مع الأمن الوطني: خلق شراكات مع الأمن الوطني لتقديم عروض تحسيسية حول خطورة العنف في الوسط المدرسي.
- إشراك الأسرة والمجتمع المدني: إشراك جمعيات آباء وأولياء التلاميذ والمجتمع المدني في رصد سلوك العنف وضمان بيئة آمنة للطلاب خارج المدرسة.
- تفعيل حقوق الطفل: يجب على المدرسة تفعيل حقوق المشاركة لدى الأطفال، ونشر ثقافة حقوق الطفل، والعمل وفق التشريعات المدرسية والوطنية، لضمان حماية الأطفال من جميع أشكال العنف والإساءة.
إقرا أيضا: ما هو برلمان الطفل وما هي أهدافه؟
خاتمة
إن مكافحة العنف المدرسي تتطلب التخلي عن الحلول المسكّنة والتركيز على التنبؤ بالعوامل التي قد تؤدي إلى السلوك العنيف، والعمل عليها بشكل استباقي. فالآليات التي يضعها النظام التربوي (من مركز وطني إلى خلايا الإنصات) لا تنجح إلا إذا تحول المدرس إلى قدوة إيجابية، يغرس روح الاحترام وقبول الآخر، ويجعل من المدرسة ملاذاً آمناً يكرس النمو المتوازن لشخصية كل متعلم، هذا التحول من العقاب إلى التربية الوقائية هو الضمان الحقيقي لنجاح أي إصلاح تربوي.



