لطالما كان التعليم حقاً عالمياً، لكن مفهوم “مدرسة للجميع” ظل تحدياً يواجه النظم التعليمية حول العالم، اليوم برزت التربية الدامجة لتكون المقاربة الأكثر إنصافاً وفعالية لضمان حصول كل طفل على تعليم ذي جودة، بعيداً عن الإقصاء أو التهميش.
فهرس المقال
فما هي التربية الدامجة تحديداً؟ وما هي الأسس التي تقوم عليها وأهدافها وكيف يمكن تفعيلها على أرض الواقع؟
ماذا تعني التربية الدامجة؟ (التعريف والمفهوم)
ببساطة، التربية الدامجة هي نظام تربوي شامل يعترف بأن جميع المتعلمين، باختلاف قدراتهم واحتياجاتهم وخصائصهم، يمتلكون الحق في التعلم معاً في بيئة مدرسية واحدة وعادية، وهي نفس البيئة التي يتعلم فيها أقرانهم من غير ذوي الاحتياجات الخاصة.
وفقاً لتعريفات المؤسسات الدولية الرائدة (مثل اليونسكو والمنظمة الدولية للإعاقة)، يمكن تلخيص مفهوم التربية الدامجة في النقاط التالية:
- مقاربة شاملة: هي رؤية شاملة للتعليم تهدف إلى تطوير جميع إمكانات كل فرد.
- ضمان الحقوق: تهدف إلى إنهاء جميع أشكال التمييز وتعزيز التماسك الاجتماعي، وتؤمن بحق الجميع في تربية ذات جودة تستجيب لحاجات التعلم الأساسية.
- إزاحة التهميش: تستهدف بشكل خاص الفئات الأكثر هشاشة وتعمل على إزاحة التهميش عنها، بمن فيهم الأطفال في وضعية إعاقة.
الفرق بين التربية الدامجة والتربية الخاصة
من الضروري التفريق بين المفهومين:
- التربية الخاصة: كانت تخصص مؤسسات أو فصولاً منفصلة للأطفال في وضعية إعاقة، مما وفر لهم رعاية متخصصة ولكنه كرس نوعاً من العزل الاجتماعي عن المجتمع المدرسي العادي.
- التربية الدامجة (الدمج المدرسي): تتجاوز العزل، هي فلسفة تقتضي تكييف المدرسة والنظام التعليمي ليتلاءم مع الطفل، وليس العكس، إنها تدعو إلى تذويب الحواجز، سواء كانت مادية أو منهجية أو ثقافية، ليتعلم الجميع معاً.
المبادئ والمرتكزات الأساسية للتربية الدامجة
لا تقوم التربية الدامجة على مجرد دمج جسدي للطلاب، بل تستند إلى مجموعة من المبادئ الأخلاقية والقانونية التي تجعلها ناجحة ومستدامة، هذه المبادئ هي:
1. مبدأ المدرسة للجميع
هذا المبدأ هو حجر الزاوية، إنه يركز على حق كل طفل، مهما كانت هويته أو ظروفه (الثقافية، الاجتماعية، أو الصحية)، في أن يجد له موقعاً في المدرسة، يجب على المؤسسة التعليمية أن تتسع لتنوع المتعلمين وتعددهم.
2. مبدأ الإنصاف والمساواة
يختلف هذا المبدأ عن المساواة المجردة، إنه يركز على التمييز الإيجابي، بمعنى تقديم الدعم والموارد الإضافية التي يحتاجها بعض الأطفال، وخاصة الأطفال في وضعية إعاقة، لكي يتمكنوا من الوصول إلى نفس النتائج التعليمية التي يصل إليها أقرانهم، هذا يضمن تكافؤ الفرص الحقيقي.
3. مبدأ القبول واحترام التنوع
تعتبر التربية الدامجة التنوع والاختلاف بين المتعلمين قيمة مضافة ومصدراً للغنى، يجب أن تترسخ قناعة لدى الجميع بأن كل طفل يمكنه أن يتعلم ويتطور إذا توفرت له البيئة والوسائل الملائمة.
4. مبدأ تكييف الظروف لا تكييف المتعلم
المشكلة ليست في الطفل وإمكانياته، بل في البيئة التعليمية التي قد تكون قاصرة عن الاستجابة لاحتياجاته، لذا يجب على المدرسة أن تكيّف برامجها وطرائقها ووسائلها لتصبح بيئة محفزة وشاملة.
الأهداف الكبرى التي تسعى إليها التربية الدامجة
إن الهدف النهائي لتبني التربية الدامجة ليس مجرد إدخال الأطفال في وضعية إعاقة إلى الفصول الدراسية، بل تحقيق تحول جذري في المجتمع والنظام التعليمي. وتتلخص الأهداف فيما يلي:
- تطوير الإمكانات الفردية: الهدف الأساسي هو تطوير كامل إمكانات كل طفل، من خلال برامج بيداغوجية خاصة ومكيفة (التكييف البيداغوجي).
- تحقيق الاندماج الاجتماعي: تتيح التربية الدامجة الفرصة للأطفال في وضعية إعاقة ليعيشوا ويتعلموا ويتفاعلوا بشكل طبيعي مع أقرانهم، مما يعزز مهاراتهم الاجتماعية وقدرتهم على الاندماج الاجتماعي مستقبلاً في مجالات الحياة المختلفة.
- القضاء على الإقصاء والتمييز: العمل على محاربة الصور النمطية السلبية والوصم الاجتماعي، وبناء مجتمع مدرسي يرحب بالجميع دون تمييز.
- جودة التعليم للجميع: ضمان أن تكون جودة التعليم المقدم تلبي الحاجات الأساسية لجميع الأطفال، وتثري وجودهم من خلال التنوع في الأساليب والطرائق.
طرق تفعيل التربية الدامجة في المؤسسات التعليمية
إن تفعيل التربية الدامجة يتطلب جهداً منظماً من جميع الشركاء (الدولة، الأطر التربوية، الأسرة، والجمعيات)، ويرتكز على المحاور التالية:
1. الإطار البيداغوجي (التكييف والبرامج)
- التكييف البيداغوجي: هو مفتاح تفعيل التربية الدامجة، يجب على المعلمين تكييف الأنشطة والمناهج وطرائق التدريس لتتناسب مع الفروق الفردية للطلاب، هذا يشمل استخدام وسائل تعليمية متنوعة، وتقنيات التعلم التعاوني، وتقديم الدعم الإضافي لمن يحتاجه.
- خطة الدعم الفردي: وضع خطط تربوية فردية (PEI) لكل طفل في وضعية إعاقة، تحدد الأهداف التعليمية والوسائل البيداغوجية والتقييمية التي تتوافق مع قدراته الخاصة.
- تدريس الأقران (Peer Teaching): تشجيع التفاعل والتعاون بين الطلاب، عندما يساعد المتعلمون بعضهم البعض، يتعزز مفهوم التقبل وتنمو لديهم مهارات التعاطف والمسؤولية.
2. الإطار المؤسساتي (المدرسة والبيئة)
- توفير الترتيبات التيسيرية (الولوجيات): يجب على المدرسة أن تكون متاحة للجميع، يتضمن ذلك توفير المنحدرات (Ramps)، والمرافق الصحية الملائمة، وتجهيز الفصول بوسائل مساعدة لضعاف البصر أو السمع.
- تكوين الأطر التربوية: لا يمكن إنجاح التربية الدامجة دون تأهيل الأطر التعليمية والإدارية، يجب تزويدهم بالمهارات والمعارف اللازمة للتعامل مع مختلف وضعيات الإعاقة ووضعيات التعلم الخاصة.
- إشراك الشركاء: دعم دور جمعيات المجتمع المدني في توفير خدمات الدعم والمواكبة والخدمات شبه الطبية (مثل تقويم النطق أو العلاج الطبيعي) داخل أو بالقرب من المؤسسات التعليمية.
3. الإطار الثقافي والاجتماعي
- تغيير العقليات: العمل على تغيير تمثلات المجتمع والآباء حول الأطفال في وضعية إعاقة، وتوعيتهم بأن الإعاقة ليست عائقاً أمام التعلم والمشاركة.
- دعم الأسرة: توفير خدمات المساعدة والدعم للأسرة في المراحل المبكرة لمواكبة تطور أطفالهم، ودمجهم كشركاء أساسيين في الخطة التربوية الفردية للطفل.
- أنشطة الدمج الاجتماعي: تنظيم أنشطة ترفيهية وثقافية مشتركة تعزز التواصل والتفاعل الإيجابي بين جميع الطلاب.
إقرا أيضا: مقاربة التحليل نفسية: المفهوم – الرواد
خلاصة
إن التربية الدامجة ليست مجرد عملية إجرائية تهدف لدمج فئة معينة، بل هي ثورة في الفكر التربوي ومقاربة إنسانية وحقوقية بامتياز، إنها رهان على بناء مدرسة عادلة وقوية، تؤمن بأن التنوع هو القوة، وبأن كل طفل، بغض النظر عن ظروفه واحتياجاته، هو فرد قادر على التعلم والإسهام في الحياة، إذا ما تم توفير الوساطة التربوية والبيئة الداعمة التي تفتح أمامه آفاق المشاركة المجتمعية الكاملة والفعالة.



