تعد النظرية البنائية ثورة حقيقية في فهمنا لعملية التعلم، حيث نقلت محور العملية التعليمية من المعلم (الذي يلقّن) إلى المتعلم (الذي يبني).
فهرس المقال
على عكس النظريات السابقة مثل السلوكية التي اعتبرت العقل “صندوقاً أسود” يستقبل المعرفة بشكل سلبي من البيئة، تؤكد البنائية على أن المعرفة تُبنى بصورة نشطة داخل عقل الفرد من خلال تفاعله مع واقعه ومعارفه السابقة.
رواد النظرية البنائية وتطورها
تطورت النظرية البنائية على يد اثنين من أبرز علماء النفس، لكل منهما إسهامه المميز في تشكيل هذه الرؤية:
1. جان بياجيه: رائد البنائية المعرفية الفردية
جان بياجيه (Jean Piaget) هو الأب الروحي للنظرية البنائية، وقد ركز على كيفية بناء الطفل لمعارفه أثناء تفاعله مع عالمه المادي، طور بياجيه النظرية البنائية كرد على السلوكية، حيث اهتم بالنشاط العضوي الذي يقوم به الإنسان في سيره نحو بناء معارفه أثناء تعامله مع الواقع.
- الخطاطات: هي وحدات البناء المعرفي الأساسية، أو الأنماط المنظمة التي يستخدمها الفرد لتفسير العالم، (مثل خطاطة إمساك شيء أو خطاطة معرفة الحيوانات).
- النمو المعرفي: هو عملية زيادة الوعي بالعلاقة بين ما يعرفه الفرد والشيء الذي يتعلمه، وهو عملية مستمرة وغرضية.
2. جيروم برونر: رائد التعلم بالاكتشاف
ركز جيروم برونر (Jerome Bruner) على كيفية تطوير وتنظيم المعرفة، وطرح مفهوم التعلم بالاكتشاف، الذي هو تعلم منظم ومتمحور حول المتعلم، ويستمر بفاعلية التفكير الذاتي للتلميذ، ويرى برونر أن أفضل طريقة للتدريس هي أن “تجعل الأطفال يكتشفون كل شيء في رؤوسهم ليتعلموه”.
مفاهيم النظرية البنائية الأساسية (بياجيه)
تدور عملية بناء المعرفة عند بياجيه حول أربع مفاهيم مترابطة تفسر كيفية انتقال الطفل من حالة اللا توازن المعرفي إلى حالة التوازن:
- المخططات المعرفية: هي الهياكل العقلية المنظمة التي تمثل الفرد موضوعيًا، تبدأ كـ خطاطات حسية حركية بسيطة في الطفولة وتتطور إلى صور ذهنية ثم صور توقعية تحليلية في مراحل لاحقة.
- التكيف: هو قدرة الفرد على التعايش والتأقلم مع محيطه، ويتضمن عمليتين متكاملتين:
- الاستيعاب: دمج المعلومات والخبرات الجديدة ضمن المخططات المعرفية الموجودة أصلاً لدى الفرد دون تعديل هذه المخططات، (مثال: رؤية قطة جديدة وتصنيفها تحت خطاطة “حيوان أليف”).
- التلاؤم/المواءمة: تغيير أو تعديل المخططات المعرفية القديمة أو بناء خطاطات جديدة لمواجهة المعلومات أو المواقف الجديدة التي لا يمكن استيعابها بالبنية المعرفية الحالية، (مثال: فهم أن الأسد هو حيوان بري وليس أليف بعد زيارة حديقة الحيوان).
- التوازن: هي حالة من التوافق بين البنية المعرفية للفرد والمعلومات التي يستقبلها من العالم الخارجي، عندما يواجه الفرد تحديًا أو مشكلة لا تتوافق مع مخططاته، يحدث اللا توازن، مما يدفع المتعلم للبحث عن حل والقيام بعمليتي الاستيعاب والتلاؤم للوصول إلى التوازن من جديد، وهذا هو جوهر التعلم.
- الاستدلال: هو شرط أساسي لبناء أي مفهوم جديد، المفهوم لا يُبنى إلا على أساس استنتاجات منطقية تستمد مادتها من خطاطات الفعل التي يطبقها المتعلم.
مبادئ وخصائص التعلم عند برونر (التعلم بالاكتشاف)
لتحقيق التعلم البنائي الفعال، طرح برونر مجموعة من المبادئ التي يجب التركيز عليها:
مبادئ التعلم عند برونر
- مبدأ الدافعية: يقوم التعلم بالاكتشاف على حالة الاستعداد للتعلم لدى المتعلم، وينبع من دافع داخلي (فضول أو رغبة في حل المشكلة).
- مبدأ البنية المعرفية: تعتمد فاعلية التعلم على مدى دقة اختيار نمط وأسلوب التعلم الذي يناسب مستوى النمو المعرفي للمتعلم (الأنماط: النمط الفعلي، النمط الأيقوني/الصوري، النمط الرمزي).
- مبدأ النتائج: ترتيب محتوى التعلم بطريقة تؤدي إلى يسر وسهولة تعلمه، ويؤدي إلى أن يأخذ المتعلم مكانه وشيء يسير من الجهد من قبل كل من المعلم والمتعلم.
- مبدأ التعزيز: يركز على أن تعزيز السلوك الصادر عن الطفل في الاتجاه المرغوب فيه يزيد من احتمال تكرار ذلك السلوك عند تكرار الموقف (التعزيز هنا يرتبط بالجهد الذاتي وليس بمكافأة خارجية مطلقة).
خصائص التعلم بالاكتشاف
- الديمومة: تبقى نتائج التعلم بالاكتشاف داخل البناء المعرفي للمتعلم لمدة أطول، بل وتصبح جزءًا من بنائه المعرفي يمكنه من توظيف تعلماته وتعميمها على المواقف المشابهة.
- الإيجابية: يؤدي التعلم بالاكتشاف إلى أن يكون دور المتعلم نشطًا وإيجابيًا في عملية التعلم.
- المرونة الذهنية: يساعد التعلم بالاكتشاف على تكوين تعميمات ومبادئ وعلاقات جديدة، مما ينمي المرونة الذهنية لدى المتعلم.
تطبيقات النظرية البنائية في التربية والتدريس
لأن النظرية البنائية ترى أن المتعلم هو الباني النشط لمعرفته، فإن دور المعلم يتحول إلى مُيسّر ومُحفّز ومرشد، وتتمثل تطبيقاتها في:
- التعلم النشط: تشجيع الطلاب على البحث والتنقيب والتوصل إلى المفاهيم بأنفسهم بدلاً من التلقين.
- تحدي المعرفة السابقة: تقديم مواقف أو أنشطة تشكل تحديًا للمتعلم (حالة اللا توازن) لتشجيعه على تعديل مخططاته وبناء معرفة جديدة.
- التعليم المتدرج (بياجيه): يجب أن تتناسب طرق وأساليب التدريس مع المراحل النمائية للطفل (حسية حركية، ما قبل العمليات، العمليات المادية، العمليات المجردة).
- حل المشكلات والمشاريع: توظيف التعلم بالمشاريع والتعلم بالاستقصاء التي تتيح للطلاب فرصة لممارسة عمليات التفكير والتحليل والاستنتاج.
- التعلم التعاوني: تشجيع العمل في مجموعات والتعلم من الأقران، حيث أن التفاعل الاجتماعي يؤدي إلى مراجعة وتعديل الأفكار الفردية (وهو ما يمهد للسلوكية الاجتماعية عند فيجوتسكي).
إقرا المزيد عن نظريات التعلم:
🔰 النظرية السلوكية
🔰 النظرية الجشطالتية
🔰 النظرية السوسيو بنائية
🔰 النظرية المعرفية
الخلاصة
تؤكد النظرية البنائية على أن المعرفة ليست شيئًا ينتقل من كتاب أو معلم إلى عقل المتعلم، بل هي منتج داخلي يتم بناؤه وتفسيره من قبل الفرد نفسه. إن فهم هذه النظرية يشجع المربين على خلق بيئة تعليمية غنية بالخبرات الواقعية، تتيح للمتعلم أن يخطئ ويتجاوز خطأه (الخطأ شرط للتعلم)، ليكتشف، ويفهم، ويبني معرفته الخاصة بشكل مستدام.
شاهد هذا الفيديو للمزيد من المعلومات عن النظرية البنائية: شرح جد مبسط ومفاهيمها الأساسية.



