تعد النظرية الجشطالتية، التي تعني حرفيًا “الشكل” أو “النمط” أو “الكل المنظم” باللغة الألمانية، واحدة من أهم المدارس الفكرية في علم النفس التي غيرت نظرتنا للتعلم والإدراك البشري.
فهرس المقال
على النقيض من النظريات السلوكية التي ركزت على تحليل السلوك إلى أجزاء صغيرة (مثير واستجابة)، جاءت الجشطالت لتقدم مفهوماً ثورياً: الكل أكبر من مجموع أجزائه.
رواد النظرية الجشطالتية
ظهرت النظرية الجشطالتية في ألمانيا في بداية القرن العشرين، وتحديداً حوالي عام 1912، كنوع من الاحتجاج على المناهج التجزيئية التي كانت سائدة آنذاك.
- ماكس فِرتْهايمر: يُعد المؤسس الفعلي للمدرسة، وركزت أعماله المبكرة على الإدراك البصري وحركة “فاي” (Phi Phenomenon).
- كورت كوفكا : اشتهر بمساهماته في تطبيق مبادئ الجشطالت على نمو الطفل وعلم نفس التعليم، ويُنسب إليه القول الشهير: “إن التعلم فعل إنساني، أما الحيوان فليس له أدنى فكرة عن السبب الذي من أجله يتحول سلوكه… إنه يتعلم بطريقة عمياء”.
- فولفغانغ كوهلر: يُعد أكثر رواد المدرسة ارتباطاً بمجال التعلم، وذلك من خلال تجاربه الشهيرة على قردة الشمبانزي التي أثبتت مفهوم الاستبصار.
المفهوم الجوهري: الكل أكبر من مجموع أجزائه
الجوهر الذي تقوم عليه النظرية الجشطالتية هو أن العقل البشري يميل بشكل فطري إلى التنظيم والبنية، عندما ندرك شيئاً، لا يبدأ عقلنا بتحليل الأجزاء الصغيرة (مثل خطوط ونقاط) ثم تجميعها، بل يدركها كوحدة متكاملة (كل) لها معنى وديناميكية خاصة.
مفاهيم أساسية في الجشطالت
- البنية والتنظيم: ترى الجشطالت أن الإدراك ليس مجرد استقبال سلبي للمعلومات الحسية، بل هو عملية نشطة لإعادة تنظيم هذه المعلومات في بنية ذات معنى، فمثلاً رؤية وجه صديقك تتم كشكل واحد وليس كأجزاء منفصلة (عين، أنف، فم).
- الإدراك: هو العملية التي يتم بها تحويل الإحساس الخام إلى خبرة ذات معنى، ويرى الجشطالتيون أن الإدراك يتم عن طريق تنظيم عناصر الموقف وإدراك العلاقات بينها، وليس عن طريق التجميع الآلي للعناصر.
- إعادة التنظيم: هي عملية بناء هيكل جديد للموقف أو المشكلة، مما يؤدي إلى الفهم الحقيقي، التعلم الجيد يتطلب هذه القدرة على رؤية الموقف من زاوية مختلفة.
- الدافعية الأصلية: ترى النظرية أن دافع التعلم ينبع من الداخل، وهو رغبة الكائن الحي في تحقيق التوازن والتنظيم في بنية الموقف، وليس مجرد الرغبة في الحصول على تعزيز خارجي (مكافأة أو عقاب).
كيف يحدث التعلم؟ نظرية الاستبصار
رفض الجشطالتيون تفسير السلوكيين للتعلم على أنه نتيجة التكرار والمحاولة والخطأ والتعزيز الخارجي، وبدلاً من ذلك، قدموا مفهوماً مركزياً هو: الاستبصار.
الاستبصار هو لحظة الفهم المفاجئ للحل، وهي اللحظة التي يتم فيها إدراك العلاقات بين عناصر الموقف التعليمي دفعة واحدة، إنه انتقال من حالة الغموض إلى حالة الوضوح الكامل.
تجارب كوهلر على الشمبانزي:
أثبتت تجارب فولفغانغ كوهلر على قردة الشمبانزي هذا المفهوم:
- تجربة الصندوق: وضع كوهلر قرد الشمبانزي “سلطان” في قفص والطعام (الموز) معلق في السقف بعيد المنال، بعد محاولات فاشلة للقفز، توقف القرد لفترة تأمل (تفكير داخلي)، ثم فجأة قام بدفع صندوق ووضعه تحت الموز وتسلقه للحصول عليه، كان الحل هنا مفاجئاً وكاملاً، وليس نتيجة تكرار المحاولات العشوائية.
- تجربة العصوين: وضع كوهلر الموز خارج القفص بعيداً عن متناول القرد، وترك له عصوين قصيرتين، لم تكن أي من العصوين طويلة بما يكفي لوحدها للوصول إلى الموز، بعد فترة من التفكير، أدرك القرد فجأة أنه يمكن وصل العصوين معاً ليصبحا عصا طويلة تمكنه من جذب الموز.
ماذا نستنتج من تجارب الاستبصار؟
- التعلم الحقيقي (بالاستبصار) لا يعتمد على التكرار أو التعزيز الخارجي، بل على الفهم وإدراك العلاقات بين أجزاء الموقف.
- الحل الذي يتم التوصل إليه عن طريق الاستبصار يتميز بأنه صحيح من أول مرة، ويصعب نسيانه، ويمكن نقله (الانتقال) وتطبيقه على مواقف مشابهة بسهولة.
قوانين الإدراك الجشطالتية (كيف ينظم عقلنا العالم؟)
لفهم كيف يقوم العقل بعملية التنظيم والإدراك، وضعت النظرية الجشطالتية مجموعة من القوانين التي تفسر ميلنا الطبيعي لرؤية الأنماط الموحدة:
- قانون التشابه: يميل العقل إلى تجميع الأشياء المتشابهة في اللون أو الشكل أو الحجم كجزء من مجموعة واحدة أو كل منظم، فمثلا في صف دراسي، نعتبر الطلاب الذين يرتدون زياً موحداً مجموعة واحدة.
- قانون التقارب: الأشياء أو العناصر المتقاربة من بعضها البعض في المكان أو الزمان يتم إدراكها كوحدة واحدة، فبدلاً من رؤية نقاط متفرقة، نرى مجموعات من النقاط.
- قانون الإغلاق/الإكمال: يميل العقل البشري إلى إكمال الأشكال أو الأنماط الناقصة وسد الثغرات فيها لإدراكها كصيغة كاملة ومكتملة، حتى لو كانت أجزاء منها مفقودة فعلياً، هذا الميل يمنحنا شعوراً بالتناسق والانتهاء.
- قانون التناظر: يميل العقل لإدراك الأشكال التي تحتوي على التناظر (أو التوازن) ككيان واحد متكامل ومدمج، لأن التناظر يسهل التنظيم الذهني.
- قانون الشكل والخلفية: الإدراك يتطلب التمييز بين الشكل (الذي هو النقطة الرئيسية للتركيز والانتباه) والخلفية (التي تحيط به).
تطبيقات النظرية الجشطالتية وأثرها
كان للـ النظرية الجشطالتية تأثير هائل ليس فقط في علم النفس، بل في مجالات أخرى:
- التعليم والتربية: تؤكد على ضرورة تقديم المواد التعليمية كـ وحدات متكاملة (كليات) لها معنى، وليس كأجزاء مفككة، وتدعو إلى اعتماد أسلوب حل المشكلات والتفكير الناقد الذي يهدف إلى الفهم العميق بدلاً من الحفظ والتكرار الآلي.
- الإبداع وحل المشكلات: يتم تفسير اللحظة الإبداعية والوصول إلى الحلول المعقدة على أنها عملية استبصار تتطلب إعادة تنظيم البنية العقلية للمشكلة.
مقارنة سريعة مع السلوكية
النظرية السلوكية
– التعلم فعل مشترك بين الإنسان والحيوان.
– التعلم عملية سلوكية آلية (مثير – استجابة).
– التعزيز الخارجي (المكافأة/العقاب) عامل أساسي للتعلم.
– التعلم يتم بالتدريج عبر التكرار والمحاولة والخطأ.
إقرا المزيد عن نظريات التعلم:
🔰 النظرية السلوكية
🔰 النظرية البنائية
🔰 النظرية السوسيو بنائية
🔰 النظرية المعرفية
النظرية الجشطالتية
– التعلم يحدث بشكل رئيسي عند الإنسان (الحيوان يتعلم بطريقة عمياء).
– التعلم عملية فهم وإدراك (إعادة تنظيم البنية).
– الاستبصار والإدراك هو العامل الأساسي، والتعزيز الخارجي عامل ثانوي أو سلبي.
– التعلم يحدث دفعة واحدة عند تحقيق الاستبصار.
في الختام، تُعتبر النظرية الجشطالتية جسراً بين علم النفس القديم وعلم النفس المعرفي الحديث، حيث قدمت رؤية عميقة لكيفية معالجة عقولنا للمعلومات، وكيف أن إدراكنا للـ كل المنظم هو أساس التعلم والفهم في حياتنا.



