تُعتبر النظرية المعرفية تحولًا جذريًا في علم النفس، حيث أعادت الاهتمام إلى العمليات الداخلية للعقل بعد فترة طويلة من سيطرة النظريات السلوكية التي ركزت فقط على السلوك الظاهر. ظهرت هذه النظرية في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي على يد رواد مثل أولريتش نايسر (Ulric Neisser) وغيره، لتقدم رؤية مفادها أن العقل البشري يعمل كـ نظام معالجة للمعلومات، يشبه إلى حد كبير الحاسوب الخارق.
فهرس المقال
نشأة النظرية المعرفية والهدف منها
تأسست النظرية المعرفية كجناح ثالث في علم النفس (بعد السلوكية والتحليل النفسي)، وهي تدرس كيفية حصول الإنسان على المعلومات من العالم الخارجي، ومعالجتها، وتخزينها، وكيفية استخدامها في اتخاذ القرارات وحل المشكلات.
العقل كجهاز حاسوب
شبّه علماء النفس المعرفي العقل البشري بنظام معالجة المعلومات، حيث يقوم بـ:
- استقبال المعلومات: عبر الحواس.
- معالجة المعلومات: عبر العمليات العقلية (التفكير، الإدراك، التذكر).
- تخزين المعلومات: في الذاكرة.
- استرجاع المعلومات: عند الحاجة إليها.
هدف النظرية المعرفية
الهدف الأساسي لـ علم النفس المعرفي هو:
- تطوير كفايات المتعلم أثناء اشتغاله الذهني وتنميتها.
- تطوير استراتيجياته المعرفية والميتا معرفية التي يستعملها في سيرورة تعلمه واكتسابه.
المفاهيم الأساسية في النظرية المعرفية
تعتمد النظرية المعرفية على مجموعة من المفاهيم المترابطة التي تشرح كيفية عمل نظام معالجة المعلومات:
1. مفاهيم الذاكرة الذهنية
تعتبر الذاكرة هي المكون الديناميكي الذي يقوم بمعالجة وتخزين واسترجاع المعلومات، وتتكون من مستويات مختلفة:
- الذاكرة الحسية: تستقبل المثيرات الحسية الخارجية (كالأصوات والصور) وتخزنها لفترة وجيزة جداً لا تتجاوز الثانية.
- الذاكرة العاملة/قصيرة المدى: يتم فيها معالجة المعلومات المسترجعة أو المستقبلة، وهي ذات قدرة محدودة جداً وتتم فيها عملية إعادة ترميز المعلومات.
- الذاكرة طويلة المدى: هي مستودع تخزين المعلومات والخبرات والمعارف والمهارات بشكل دائم.
2. سيرورات معالجة المعلومات
التعلم الفعال يتطلب مرور المعلومات عبر سلسلة من السيرورات العقلية:
- سيرورات استقبال المعلومات: تتمثل في الانتباه الانتقائي للمعلومات، أي تركيز الفرد على المثيرات الحسية ذات الأهمية وتجاهل الأخرى لتجنب العبء الزائد المعرفي.
- سيرورات معالجة المعلومات: تتضمن إعادة تنظيم وترميز وتحويل المدخلات الحسية إلى أشكال عقلية يمكن للذاكرة تخزينها واسترجاعها (مثل تحويل صورة إلى رمز أو كلمة).
- سيرورات استرجاع المعلومات: يتم فيها استحضار المعارف من الذاكرة طويلة المدى إلى الذاكرة العاملة لحل المشكلات أو لإضافة معارف جديدة.
3. القدرات الميتا معرفية
تُعد القدرات الميتا معرفية – أو التفكير فيما وراء المعرفة – من أهم إسهامات النظرية المعرفية، وهي تتعلق بـ وعي الفرد بأساليب تفكيره وقدرته على التحكم فيها. وهي تمكن الفرد من:
- التمكن من وضع خطة قائمة على الخطوات التي سيقوم بها لحل المشكلة.
- القدرة على تحديد الخطوات التي وصل إليها المتعلم لتنفيذ مهمة ما، وموقعه منها.
- تطوير استراتيجيات التعلم الخاصة به وتنميتها.
خصائص المتعلم والتفكير الميتا معرفي
المتعلم الفعال من منظور النظرية المعرفية هو الذي يمتلك مهارات التفكير الميتا معرفي، التي تتجلى في سلوكه:
- التمكن من وضع خطة قائمة على الخطوات التي سيقومون بها لحل المشكلة.
- القدرة على تحديد الخطوة التي وصلوا إليها في تنفيذ المهمة التي يقومون بها، وموقعها بالنظر إلى الخطوات اللاحقة.
- تفسير استراتيجياته التي أوصلته إلى الحل، مما يعني قدرته على الوعي بذاته المعرفية.
- التفكير المتباعد (الإبداع): زيادة تحكمه فيما يكتسبه من معلومات وتوليد أفكار جديدة وإبداعية.
يصبح المتعلم بفضل هذه القدرات مفكراً متكاملاً يربط بين ماضيه المعرفي وحاضره المستقبلي، حيث ينظم خبراته ويفسرها في علاقتها بالعالم الخارجي.
التطبيقات التربوية للنظرية المعرفية
تُستخدم النظرية المعرفية على نطاق واسع في مجال التعليم والتدريب:
- تنمية استراتيجيات التعلم: تدريب المتعلمين على كيفية تنظيم المعلومات، وتلخيصها، واستخدام الخرائط الذهنية لتفعيل آليات الذاكرة والميتا معرفة.
- تنويع الاستراتيجيات: يجب على المعلم تنويع استراتيجيات التعلم وتكثيرها (مثل الحفظ، والتحليل، والتركيب، والاستدلال، والمقارنة) ليتمكن المتعلم من انتقاء الاستراتيجية التي تتميز بـ الفاعلية والاقتصاد.
- التعلم القائم على المعنى: التأكيد على أهمية بناء المعنى وربط المعلومات الجديدة بالمعرفة السابقة للمتعلم لتسهيل عملية التخزين والاسترجاع من الذاكرة طويلة المدى.
- تحليل المهام (Task Analysis): يتم تقسيم المهام المعقدة إلى خطوات بسيطة ومتسلسلة يمكن معالجتها من قبل الذاكرة العاملة ذات القدرة المحدودة.
إقرا المزيد عن نظريات التعلم:
🔰 النظرية السلوكية
🔰 النظرية الجشطالتية
🔰 النظرية البنائية
🔰 النظرية السوسيو بنائية
الخلاصة
تجاوزت النظرية المعرفية القيود التي فرضتها السلوكية، مقدمة نموذجاً قوياً يفسر التعلم على أنه عملية عقلية نشطة ومعقدة. من خلال فهم كيفية معالجة عقولنا للمعلومات وتطوير قدرتنا على التفكير فيما وراء المعرفة، توفر النظرية المعرفية إطاراً عملياً لتمكين المتعلمين من أن يكونوا أكثر كفاءة ووعيًا بأساليب تعلمهم، مما يضمن تعلمًا عميقًا ومستدامًا.



