دينامية الجماعات الصغرى: جماعة القسم

كل منا قضى سنوات طويلة داخل غرفة صفية، لكن هل توقفنا يوماً لنفكر في أن هذا الفصل ليس مجرد مكان لتلقي الدروس، بل هو في حقيقته “جماعة صغرى”؟ إنها منظومة اجتماعية حية تتفاعل وتتغير باستمرار، وهي ما يسميه علماء الاجتماع وعلماء النفس التربوي بـ “دينامية الجماعات الصغرى”.

تعد جماعة القسم نموذجاً مصغراً للمجتمع، وتكمن “ديناميتها” في تلك القوى الخفية والحركة المستمرة من التفاعل والتأثير المتبادل بين أفرادها، فهم ليسوا مجرد أرقام، بل هم وحدة حية يؤثر فيها كل تلميذ على الآخر، فهم هذا التفاعل أمر حاسم ليس فقط للمدرس، ولكن لأي شخص مهتم بفهم كيف تعمل المجموعات التي ننتمي إليها، بدءاً من الفصل وصولاً إلى بيئة العمل.

في هذا المقال الشامل، سنغوص عميقاً في مفهوم دينامية الجماعة، ونفكك خصائص جماعة القسم الفريدة، ونستعرض الأهداف التربوية والاجتماعية التي تسعى لتحقيقها، مع تسليط الضوء على أنواع الجماعات التي تساعدنا على فهم طبيعة هذا التجمع المؤسسي.

أولاً: مفهوم دينامية الجماعة وأنواعها

لفهم جماعة القسم، يجب أولاً أن ندرك المظلة الأكبر: دينامية الجماعة.

ما هي دينامية الجماعة؟

ببساطة، كلمة “دينامية” تعني الحركة والقوة والفاعلية، أما “دينامية الجماعة” فهي العلم الذي يدرس القوى والتفاعلات والعلاقات التي تنشأ بين الأفراد داخل أي مجموعة، هي تلك الروح التي تجعل المجموعة متماسكة أو متنافرة، منتجة أو معطلة، هذا التفاعل هو ما يحدد سلوك الأفراد، ويؤثر على أدوارهم ومكانتهم الاجتماعية داخل المجموعة.

تصنيف “أنزو” للجماعات الصغرى: أين تقع جماعة القسم؟

قدم العالم “أنزو” تصنيفاً هاماً يوضح مستويات التجمع البشري، وهذا يساعدنا على تحديد مكانة جماعة القسم بوضوح، هذه التقسيمات تشمل:

  1. الحشد (La foule): وهو تجمع تلقائي لا تحكمه أية مصلحة مشتركة أو أهداف قبلية، مثال: مجموعة من الناس تتجمع حول حادث مفاجئ، تفاعله سطحي ومؤقت.
  2. العصابة (La bande): تجمع إرادي يضم عدداً قليلاً من الأفراد، وغالباً ما يكون تنظيمها ظرفياً، تفاعلها شخصي ولكنه قد لا يكون موجهاً نحو هدف واضح ومنظم.
  3. التجمع (Le regroupement): يتميز بوجود أهداف واضحة ومحددة في مدة زمنية معينة، وغالباً ما يبحث عن المصلحة العامة لأفراده، هو أكثر تنظيماً من العصابة والحشد.
  4. الجماعة الأولية أو الصغرى (Le groupe primaire ou petit groupe): وهي أهم فئة، وتمتاز بأنها ذات عدد محدود، لديها سعي مشترك وفعال نحو هدف جماعي، ويسودها التجانس الجماعي، وتقوم على علاقات حميمية بين الأفراد، والتبعية المشتركة وتلاحم الأفراد، إن جماعة القسم تندرج بشكل أساسي ضمن هذا النوع.
  5. الجماعة الثانوية أو المنظمة (Le groupe secondaire ou organisation): وهي جماعات أكبر حجماً وأكثر رسمية (كالمؤسسة التعليمية أو المستشفى بالكامل)، وتكون الروابط فيها أقل حميمية وأكثر ارتباطاً بالوظيفة المحددة.

إن فهمنا أن جماعة القسم هي جماعة أولية ذات دينامية وتلاحم عاليين، يوضح لماذا يكون تأثيرها كبيراً على شخصية التلميذ.

ثانياً: جماعة القسم.. مجتمع صغير في إطار مؤسسي

تعتبر جماعة القسم، في المؤسسات التعليمية والمستشفيات (كالتنظيم الاجتماعي ذي الطابع المؤسسي)، مجتمعاً صغيراً بخصائص فريدة.

التعريف الواضح لجماعة القسم

هي: “مجتمع صغير من التلاميذ متقارب عمرياً وسوسيوثقافياً، يحدد أفراده أهدافاً مشتركة، كما يحكمه نظام خارجي يحدد برنامج عمله وإيقاعاته”، هذا الوصف يوضح لماذا تتمتع هذه الجماعة بدينامية وحيوية عالية، فهي ليست مجرد تجمع عشوائي، بل كيان منظم ومُحفز.

الخصائص الفريدة لجماعة القسم (خصائص جماعة القسم)

انطلاقاً من التعريف، يمكننا تحديد مجموعة من الخصائص المميزة التي تجعل من جماعة القسم وحدة دراسية فريدة:

  • 1. جماعة شكلية أو رسمية (نظامية): لم يختر الأفراد التواجد فيها بمحض إرادتهم، بل فرضتها المقتضيات المؤسسية، القائد (المدرس) والقواعد العامة يتم تحديدها سلفاً من قبل النظام التعليمي، هذا يجعل مسألة تدبير جماعة القسم عملية تتطلب مهارات خاصة في القيادة الديمقراطية.
  • 2. جماعة متجانسة عمرياً: هذا التجانس العمري بين أفرادها يسهل التفاعل المشترك ويوحد إلى حد كبير اهتماماتهم واحتياجاتهم النمائية.
  • 3. القائد مُحدد سلفاً: دور القيادة محدد مسبقاً (المدرس)، وهو يمثل السلطة الخارجية التي تضبط إيقاع العمل، على عكس جماعات الأصدقاء التي تختار قائدها تلقائياً.
  • 4. جماعة ذات أهداف مشتركة محددة: الأهداف ليست عشوائية بل هي منهجية ومطلوبة من قبل المؤسسة.

ثالثاً: الأهداف العميقة لجماعة القسم (أهداف جماعة القسم التربوية)

لماذا يتم إنشاء هذه الجماعة؟ تتجاوز الأهداف مجرد تمرير المعلومات لتشمل جوانب تربوية ونفسية واجتماعية عميقة، وهي أساس نجاح العملية التعليمية، يمكن تلخيص هذه الأهداف المشتركة في ثلاثة محاور رئيسية:

المحور الأول: النجاح الدراسي وتحقيق الذات

الهدف الأساسي لجماعة القسم هو تحقيق النجاح الأكاديمي، هذا يشمل:

  • تحصيل المعارف والمهارات: حيث يتلقى التلاميذ التعليم المنهجي.
  • تحقيق الذات: يجد التلميذ في تفاعله مع زملائه ومدرسه فرصة لإبراز قدراته الفردية، وتنمية ثقته بنفسه وشعوره بالانتماء، وهو ما يعزز لديه تقدير الذات.

المحور الثاني: تعديل السلوك واكتساب القيم

القسم هو ورشة عمل لتشكيل الشخصية، التفاعل اليومي يهدف إلى:

  • تعديل السلوك الفردي والجماعي: يتعلم التلاميذ الانضباط، والالتزام بالقواعد، والتفاوض، وحل النزاعات بطرق سلمية.
  • اكتساب مهارات ومعارف وقيم جديدة: مثل تحمل المسؤولية، الوعي بالذات وبالآخرين، التعاون، والتنافس الشريف، احترام الفروق الفردية.

المحور الثالث: خلق العلاقات الاجتماعية وتنمية الروح الجماعية

لا يكتمل الدور التربوي دون تنمية الجانب الاجتماعي:

  • خلق علاقات الزمالة والصداقة بين أفرادها: يتشكل في هذا الإطار الدعم الوجداني والانتماء، وهو ما يساهم في إيجاد مناخ دراسي إيجابي ومحفز.
  • تعزيز الاستقلالية والمسؤولية: حيث يتعلم التلميذ دوره كعضو فعال ومسؤول في بيئة اجتماعية منظمة.

رابعاً: أهمية تدبير جماعة القسم لتحقيق التماسك

بما أن جماعة القسم كنظام اجتماعي متحرك، فإن نجاحها يتوقف على مهارات المدرس في تدبير جماعة القسم.

يجب أن يُدرك المدرس أن إدارته لا تقتصر على شرح الدرس، بل تشمل إدارة التفاعلات والقوى التي تحدث داخل الفصل، كلما كان التدبير فعالاً، كلما زاد التجانس الجماعي وقوة الرابطة بين الأفراد، وقلت النزاعات التي قد تعيق التعلم.

إن بناء مناخ من الود والتعاون، وتوزيع الأدوار بإنصاف، وتعزيز الثقة بالنفس والإنصات المتبادل، هي كلها آليات تضمن تحويل التفاعل الحركي (الدينامية) إلى قوة دافعة نحو تحقيق الأهداف المشتركة للجماعة.

إقرا أيضا: التربية الدامجة: التعريف – المبادئ – الأهداف – طرق التفعيل

الخلاصة: القسم.. مختبر الحياة الاجتماعية

إن دينامية الجماعات الصغرى: جماعة القسم هي ظاهرة اجتماعية وتربوية غاية في الأهمية، إنها أكثر من مجرد صف دراسي؛ إنها بيئة حية حيث يولد الانتماء، وتُكتسب المهارات الاجتماعية، وتُشحذ الشخصية.

النجاح في هذه الجماعة لا يُقاس فقط بالدرجات الأكاديمية، بل بقدرة الأفراد على التفاعل بإيجابية، التلاحم نحو هدف واحد، والتعلم من بعضهم البعض. إن إدراك هذه الدينامية والتعامل معها بوعي هو المفتاح لفتح الإمكانات الكاملة لكل تلميذ داخل هذا المجتمع المصغر.

فلنتذكر دائماً أن كل علاقة زمالة، وكل حوار، وكل جهد جماعي داخل الفصل، هو جزء من هذه الدينامية القوية التي تشكل شخصية الفرد وتعده ليصبح عضواً فعالاً في الجماعات الثانوية والمجتمع الأكبر.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *