هل تساءلت يوماً لماذا تتصرف المجموعات البشرية بشكل مختلف عن تصرفات الأفراد الذين يكونونها؟ لماذا ينجرف الناس في الحشود، وكيف تنشأ مشاعر الانتماء والعداء داخل أي تجمع؟
فهرس المقال
إن الإجابة تكمن في مقاربة التحليل نفسية، وهي نظرة عميقة لا تتوقف عند حدود العقل الواعي، بل تغوص في اللاشعور الجماعي (Group Unconscious) لفك شفرة السلوك البشري المشترك.
هذه المقاربة، التي طورها رواد مثل سيجموند فرويد وخصوصاً ديدييه أنزيو، تقدم لنا خارطة طريق لفهم القوى الخفية التي تحركنا عندما نكون جزءاً من مجموعة.
سننطلق في هذا المقال الحصري، المكتوب بأسلوب بسيط ومفهوم للجميع، لكشف أسرار هذه المقاربة، مع التركيز على أهم أطروحاتها في مجال دينامية الجماعات وكيف يمكنها أن تغير نظرتنا للعالم من حولنا.
جذور مقاربة التحليل نفسية
لكي نفهم مقاربة التحليل نفسية للجماعات، يجب أن نبدأ بالأساس الذي وضعته مدرسة التحليل النفسي الكلاسيكي، وتحديداً مؤسسها سيجموند فرويد، آمن فرويد بأن السلوك البشري تحركه دوافع ورغبات مدفونة في اللاوعي (أو اللاشعور)، وتظهر هذه الدوافع في حياتنا اليومية عبر زلات اللسان، الأحلام، أو العقد النفسية.
لكن السؤال كان: هل ينطبق هذا على المجموعة ككل؟
لقد توسعت مقاربة التحليل نفسية للإجابة على هذا السؤال، معتبرة أن الجماعة ليست مجرد أفراد متجاورين، بل هي كيان نفسي خاص يتمتع بـ”لاشعور” خاص به، يتشكل من تفاعلات المشاعر والدوافع البدائية للأعضاء، هنا يبرز دور عالم النفس الفرنسي ديدييه أنزيو (Didier Anzieu)، الذي كرس حياته لدراسة دينامية الجماعات الصغرى، مستخدماً أدوات التحليل النفسي الإكلينيكي.
ديدييه أنزيو: رائد التحليل النفسي للجماعات الصغرى
يعد ديدييه أنزيو، بفضل أعماله مثل “الجماعة واللاوعي”، المعماري الحقيقي لـ مقاربة التحليل نفسية في سياق المجموعة، بالنسبة لأنزيو، الجماعة هي أكثر من مكان يجتمع فيه الناس؛ إنها وسيلة حيوية تحقق هدفين أساسيين للأفراد:
- التواصل والإشباع: تسمح للأفراد بالتواصل وتحقيق رغباتهم.
- تنفيس العقد البدائية: توفر متنفساً آمناً للرغبات والمخاوف العميقة الناشئة عن العقد البدائية (Primal Complexes) مثل عقدة أوديب (Oedipus Complex)، أو عقدة إليكترا، والنرجسية والسادية، ففي حمى التفاعل الجماعي، يتم “تمثيل” هذه العقد بشكل رمزي.
المقاربة المبتكرة: الجماعة كجسد وكحلم
قدم ديدييه أنزيو مفهومين عميقين لتفسير العلاقة النفسية بين الفرد والمجموعة، مبتعداً عن المفاهيم الاجتماعية السطحية ومركزاً على البعد النفسي اللاشعوري:
1. الجماعة تشبه جسد الإنسان
في هذه النظرة، يُنظر إلى الجماعة كوحدة عضوية متكاملة، حيث يُعتبر كل فرد بمثابة عضو حيوي في هذا الجسد الجماعي، هذا التصور يغذي مشاعر الانتماء والتماهي القوية، عندما يشعر الفرد بالتهديد، ينشأ لديه قلق يتعلق بسلامة “الجسد الجماعي” ككل، مما يدفعه إلى حمايته والدفاع عنه كجزء من ذاته، إنها علاقة بيولوجية رمزية تجعل مصير الفرد مرتبطاً بمصير الجماعة بشكل لا واعٍ.
2. الجماعة تشبه الأحلام
مثلما تعمل الأحلام على تحقيق خيالي للرغبات المكبوتة لدى الفرد، فإن الجماعة أيضاً تثير لدى أعضائها نوعاً من الاكتمال الخيالي للرغبات، في سياق المجموعة، يجد الفرد مساحة لتحقيق ما يعجز عنه بمفرده، ليس بالضرورة في الواقع، بل في الخيال المشترك الذي تخلقه دينامية الجماعة، هذا الخيال المشترك هو الذي يغذي الشعور بالقوة والقدرة المطلقة، ويقود إلى التماسك العاطفي.
الصراع الخفي: الوهم الجماعي واستغاثة التدمير
في أعماق لاشعور الجماعة، يرى أنزيو وجود سيرورتين (عمليتين) نفسيتين متناقضتين تعملان باستمرار على شد هذا الكيان وبنائه وتفكيكه في آن واحد:
1. الوهم الجماعي
وهو ميل لاشعوري قوي نحو التحام جماعي مُحمس، حيث يشعر الأعضاء بأنهم كتلة واحدة متجانسة بلا اختلافات، تحقق رغباتها فوراً، إنه شعور مؤقت وغامر بالوحدة والقوة يولد الحماسة ويدعم بقاء المجموعة.
2. استمات التكسير
على النقيض تماماً، توجد رغبة لاشعورية أخرى نحو التدمير الفيزيائي للجماعة، أو تحطيم الروابط القائمة، وقد تظهر هذه الرغبة من قبل بعض الأعضاء أو الأعضاء كلهم، هذا الميل إلى التكسير والعدوان ينبع عادةً من الإحباط أو الخوف من الانصهار الكلي وفقدان الهوية الفردية داخل الوهم الجماعي.
إن صحة الجماعة وحيويتها تكمن في قدرتها على التوازن بين هذين النقيضين: الاستفادة من قوة الوهم الجماعي دون السقوط في فخ التدمير الذاتي.
التنظيمات اللاشعورية الخمسة: البنية النفسية للجماعة
لتحليل لاشعور الجماعة، حدد ديدييه أنزيو خمسة تنظيمات لاشعورية أساسية تعمل كهياكل تنظيمية لهذا الكيان النفسي المشترك:
- الاستيهام الفردي: وهي الرغبات والصور الخاصة بكل فرد والتي يسقطها على المجموعة.
- الصورة: الصورة المثالية التي تسعى الجماعة لتحقيقها.
- الاستيهام الأصلي: وهي سيناريوهات لاشعورية مشتركة تتعلق بالأصول (الولادة، الموت، الجنس).
- عقدة أوديب: ظهور الصراع حول السلطة والقيادة داخل الجماعة بصورة رمزية.
- الغشاء النفسي الجماعي: وهو المفهوم الأهم عند أنزيو، يُعتبر هذا “الغشاء” بمثابة حاجز نفسي (جلد) يحمي الجماعة من الداخل والخارج، ويحدد حدودها، هذا الغشاء هو ما يجعل الجماعة تشعر بوجودها المستقل، ويسمح بتبادل “المشاعر” بين الأعضاء، لكنه يمثل أيضاً نقطة ضعف يمكن أن تتمزق في لحظات الخطر أو التفكك.
إقرا أيضا: مقاربة القياس الاجتماعي / السوسيومتري: التعريف – المفاهيم المؤسسة
أهمية مقاربة التحليل نفسية في فهم مجتمعاتنا
لا تقتصر مقاربة التحليل نفسية على تفسير سلوك المجموعات الصغيرة في العلاج النفسي أو الدراسات الأكاديمية، بل تمتد لتفسير الظواهر الاجتماعية الكبرى مثل تشكل الإيديولوجيات، الحركات الجماهيرية، والتعصب.
عبر عدسة ديدييه أنزيو والتحليل النفسي، نفهم أن الروابط بين القادة والأتباع، وبين أعضاء المجتمع، غالباً ما تكون مدفوعة بقوى ليبيدية (Libidinal Forces) وروابط عاطفية لاواعية تنبع من الحاجة إلى الانتماء والحماية من الخوف والقلق، بالتالي فإن محاولة تغيير أي جماعة أو مجتمع يجب أن تبدأ بفهم هذا اللاشعور المشترك، وليس بالمنطق الواعي وحده.
هذه المقاربة تقدم لنا أداة قوية لتحليل العمق النفسي للظواهر الجماعية، وتؤكد أن الكيان الجماعي، مثل الفرد، يحمل بداخله صراعاً مستمراً بين الرغبة في التماسك والتدمير، وبفهم هذه مقاربة التحليل نفسية، نكتسب فهماً أعمق لطبيعتنا ككائنات اجتماعية معقدة.
لإثراء فهمك للمفاهيم المرتبطة بلاشعور الجماعة، يمكنك مشاهدة هذا الفيديو: كارل يونغ: اللاوعي الجماعي.



