هل تساءلت يوماً عن القوى الخفية التي تحرك العلاقات داخل مجموعة من الأصدقاء، أو فريق عمل، أو حتى فصل دراسي؟ كيف نعرف من هو “القائد” غير الرسمي، ومن هو الشخص “المنعزل”؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة تكمن في علم اجتماعي رائد يُعرف باسم القياس الاجتماعي أو السوسيو مترية.
فهرس المقال
هذا المقال هو دليلك المبسط لفهم مقاربة القياس الاجتماعي: تعريفها، وكيف نشأت، وأهم المفاهيم المؤسسة التي تفتح لنا الباب لرؤية العلاقات الاجتماعية بشكل كمي وملموس.
ما هي مقاربة القياس الاجتماعي / السوسيومتري؟
تعد مقاربة القياس الاجتماعي (Sociometry) إحدى النظريات المبتكرة التي تهتم بالبناء الاجتماعي وتحليل العلاقات التفاعلية داخل الجماعات، ويمكن تعريفها ببساطة على النحو التالي:
هي نظرية ومنهجية تهدف إلى جمع البيانات الكمية المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية لدراسة العواطف المتبادلة بين أفراد الجماعة، وتحديداً عواطف الود (الجذب)، والنفور (الكره)، واللامبالاة (الإهمال أو الحياد).
هذه المقاربة لا تقتصر على مجرد الوصف، بل تهدف إلى قياس وتصوير هذه الروابط بطريقة إحصائية وبيانية، مما يكشف عن الهيكل الاجتماعي الداخلي للجماعة، ومستوى تماسك الجماعة، وتحديد الأفراد الأكثر تأثيراً والأكثر عزلة.
من هو جاكوب ليفي مورينو؟ مؤسس القياس الاجتماعي
لا يمكن الحديث عن القياس الاجتماعي دون ذكر مؤسسه، وهو الطبيب والمعالج النفسي النمساوي-الأمريكي جاكوب ليفي مورينو (Jacob L. Moreno).
مورينو، الذي عاش بين عامي 1889 و1974، هو عالم اجتماعي وطبيب نفسي مهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بدأ مورينو أفكاره في أوروبا، ثم قام بتطويرها بشكل كامل في أمريكا، يعتبر كتابه “من سيكتب البقاء؟” من أهم أعماله التي طرح فيها نظريته القائمة على تحليل بناء الجماعات وشبكة علاقاتها، وتوظيف آلية القياس الاجتماعي كأداة.
لقد رأى مورينو أن الأفراد داخل أي مجموعة يرتبطون بثلاثة أنواع من العلاقات العاطفية الممكنة: الود، الكره، واللامبالاة، وشدد على أن قياس هذه العلاقات وفحص الروابط الاجتماعية هو مفتاح فهم دينامية الجماعة وسلوك أفرادها.
المفاهيم المؤسسة في مقاربة القياس الاجتماعي
ترتكز مقاربة القياس الاجتماعي على عدد من المفاهيم الأساسية التي تشكل أدواتها التحليلية والتشخيصية لفهم البناء الاجتماعي للجماعات، أهم هذه المفاهيم هي:
1. الذرة الاجتماعية أو السوسيو عاطفية
تُعد الذرة الاجتماعية أصغر وحدة لقياس العلاقات الاجتماعية، وهي تمثل مجموع العلاقات التي يُقيمها الفرد مع الآخرين عبر محورين أساسيين هما: الجذب (Attraction) أو النفور (Repulsion).
بمعنى آخر، إنها تمثل الشبكة النفسية-الاجتماعية الصغيرة للفرد، حيث تظهر كيف يختار الفرد الآخرين وكيف يُرفض أو يُختار من قِبَلهم، إن فهم الذرة الاجتماعية يساعد في فهم التوازنات الداخلية للفرد ومدى اندماجه أو انعزاله.
2. السوسيوغرام
السوسيوغرام هو الأداة الأكثر شهرة في مقاربة القياس الاجتماعي، ويمكن تعريفه بأنه:
عبارة عن تمثيل بياني لشبكة الروابط والعلاقات الاجتماعية داخل الجماعة، يتم بناء السوسيوغرام بناءً على معطيات إحصائية يتم جمعها عبر الاستمارات (اختبار القياس الاجتماعي).
في هذا المخطط، يُمثل كل فرد بدائرة أو مربع، وتمثل الأسهم (الروابط) طبيعة العلاقة، سواء كانت ودية (اختيار)، أو سلبية (رفض)، أو حتى علاقات متبادلة أو أحادية.
أهمية السوسيوغرام:
- التشخيص: يسهل السوسيوغرام قراءة وفهم طبيعة العلاقات داخل الجماعة ومواقف أفرادها، مما يسمح بتشخيص مستوى تماسكها.
- المستوى العلاجي: يوفر السوسيوغرام أساساً لوضع خطط تصحيحية (علاج سوسيو متري) لإعادة تنظيم الجماعة وزيادة انسجامها، وتحسين وضع الأفراد المهمشين أو المعزولين.
3. الجاذبية الاجتماعية أو جاذبية الانتماء للجماعة
هذا المفهوم يشير إلى المساحة التي يحتلها الفرد داخل المجموعة، ويتضمن الشعور بالانتماء للجماعة، الذي يُعبر عنه بالشعور بالقوة، والاعتزاز، والأمن، والتقارب البينشخصي.
تُعنى نظرية القياس الاجتماعي بدراسة هذه الجاذبية كمياً، وتُقسم هذه المساحة أو الوضع الاجتماعي للفرد إلى مستويين أساسيين للقياس:
- المستوى التشخيصي: تحديد الأفراد الأكثر قبولاً (النجوم)، والأكثر رفضاً (المعزولون)، والأزواج المترابطة، والعصابات أو الشلل داخل المجموعة.
- المستوى العلاجي: استخدام البيانات لتصحيح العلاقات وإعادة تماسك الجماعة.
4. الروابط وعواطف مورينو الثلاثة
كما ذُكر سابقاً، حدد مورينو ثلاثة عوامل سوسيو عاطفية أساسية تحكم الروابط بين الأفراد، وهي جوهر القياس:
- الود (الجذب): الرغبة في التقرب والاختيار الإيجابي.
- الكره (النفور): الرغبة في الابتعاد والرفض السلبي.
- اللامبالاة: عدم الاختيار أو الرفض.
يتم الكشف عن هذه الروابط بدقة عالية عبر اختبار القياس الاجتماعي (Sociometric Test)، والذي هو عبارة عن مجموعة من الأسئلة تُقدم في شكل استمارة، يُطلب فيها من الأفراد اختيار أو رفض أشخاص آخرين لأداء نشاط معين (مثال: “من تختار للجلوس بجانبك؟” أو “من ترفض أن يعمل معك؟”).
5. أدوات القياس: رائز القياس الاجتماعي
الرائز هو الأداة الإجرائية التي تستخدم لجمع البيانات، يتضمن الرائز عدداً من الأسئلة التي تُطرح على الأفراد لمعرفة علاقاتهم النفسية والاجتماعية بالآخرين بدقة.
بمجرد إفراغ الأجوبة في جدول، يتم تحويل هذه المعطيات إلى خرائط وسوسيوغرامات إحصائية، هذا التحويل هو الذي يجعل المقاربة كمية وقابلة للتحليل العميق، ويسمح بوضع تشخيص واضح لتصحيح العلاقات وتدعيم تماسك الجماعة، وهو ما يُعرف بالمستوى العلاجي الثاني للقياس الاجتماعي.
إقرا أيضا: المقاربة الدينامية: مقاربة المجال عند كورت لوين
الخلاصة: لماذا القياس الاجتماعي مهم؟
تُقدم مقاربة القياس الاجتماعي رؤية فريدة وقوية لفهم عالم العلاقات الإنسانية، هي ليست مجرد نظرية، بل أسلوب تطبيقي يساعدنا على “رؤية” البناء غير المرئي للجماعات. بفضل أدواتها، وخاصة السوسيوغرام، يمكن للمربين، والمعالجين، والقادة، وحتى الباحثين، أن يشخصوا المشكلات الاجتماعية مثل العزلة، والتهميش، والانقسام، والعمل على بناء مجموعات أكثر انسجاماً وتماسكاً وإنتاجية، إنها خطوة حقيقية نحو تحويل المشاعر والعواطف الاجتماعية إلى بيانات قابلة للقياس والتحليل، وهذا هو جوهر عبقرية جاكوب ليفي مورينو.
هذا الفيديو يشرح بالتفصيل القياس السوسيومتري: تعريفه وأسسه ومبادئه:



