ما هو المثلث البيداغوجي؟ – التعريف والأسس

يعد المثلث البيداغوجي، الذي اقترحه الباحث الفرنسي جان هوساي (Jean Houssaye) عام 1988، واحداً من أهم النماذج النظرية التي ساعدت التربويين على فهم كيفية سير العملية التعليمية داخل الفصل وخارجه. هذا النموذج البسيط في شكله، والعميق في مضمونه، يوضح أن أي وضعية تعليمية مهما كانت معقدة، لا يمكن أن تخرج عن ثلاثة أقطاب أساسية تتفاعل فيما بينها بشكل دائم.

لفهم التدريس الحديث، يجب أن نبتعد عن فكرة أن العملية التعليمية مجرد “نقل” للمعرفة من المدرس إلى المتعلم. بل هي شبكة معقدة من العلاقات والتفاعلات. ولهذا، فإن الكلمة المفتاحية المثلث البيداغوجي أصبحت أساسية لكل من يسعى لتطوير ممارساته التعليمية، لأن هذا المثلث هو الذي يحدد الأدوار وأنماط التفاعل داخل الصف.

1. التعريف والمكونات الأساسية للمثلث البيداغوجي

المثلث البيداغوجي هو نموذج نظري يصف العملية التعليمية/التربوية من خلال تحديد ثلاثة أقطاب رئيسية، ويرى هوساي أن الفعل التعليمي هو عبارة عن عملية تفاعل بين هذه المكونات الثلاثة:

الأقطاب الثلاثة للمثلث البيداغوجي

يتكون المثلث من ثلاثة رؤوس، يمثل كل رأس قطباً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه في أي وضعية تعليمية:

أ. قطب المدرس

يمثل هذا القطب الطرف المسؤول عن عملية الإشراف والتوجيه والتنظيم. يُنظر إلى المدرس هنا على أنه ليس مجرد مُلقّن، بل هو المُرشد، والمُرَبّي، والمُشرف، والمُكوّن. دوره يتمحور حول تسهيل وصول المعرفة إلى المتعلم، وتنظيم البيئة التعليمية، ووضع استراتيجيات التدريس المناسبة.

ب. قطب المتعلم

يُعدّ هذا القطب هو المحور الأساسي الذي تدور حوله العملية التعليمية برمتها. يشير المتعلم إلى المتربين، والمتكونين، والمتعلمين. كل مجهود المدرس والمعرفة يهدف إلى بناء القدرات وتنمية المهارات لدى هذا القطب، مع مراعاة خصائصه السيكولوجية وتمثلاته القبلية.

ج. قطب المعرفة

تمثل المعرفة المحتويات، والتخصصات، والبرامج، والتعلمات. هي المادة الدراسية التي يتم تدريسها (كاللغة أو الفيزياء أو التاريخ). وظيفة هذا القطب هي تحديد “ماذا” سنتعلم، وكيف سنقوم بتحويل المعرفة العالمة (الأكاديمية) إلى معرفة مُبسّطة ومُدرَّسة (النقل الديداكتيكي).

2. العلاقات الثلاثة وسيرورات الفعل التعليمي

إن جوهر المثلث يكمن في العلاقات المتبادلة بين هذه الأقطاب الثلاثة. كل علاقة من هذه العلاقات تُمثّل سيرورة بيداغوجية مختلفة، وعندما تطغى إحدى هذه السيرورات على الأخريين، فإنها تحدد نمط التعليم السائد في الفصل.

أ. العلاقة الأولى: سيرورة التعليم (المدرس ↔ المعرفة)

  • وصف العلاقة: هي العلاقة بين المدرس والمحتوى العلمي، ويُطلق عليها أيضاً الخلاصة الديداكتيكية (Relation didactique).
  • الوظيفة: يمارس المدرس في هذه العلاقة وظيفته كمُعلّم لهذه المعرفة. يقوم بمعالجة المعرفة العالمة وترتيبها وتصنيفها من أجل تحويلها إلى تعلمات قابلة للتمرير.
  • النمط السائد: عندما تسود هذه السيرورة، نكون أمام البيداغوجيا الكلاسيكية أو التلقينية. وهنا، يصبح المتعلم هو القطب الغائب (الميت)، حيث يتم تجاهل دوره، ويُعتبر مجرد متلقٍ للمعلومات.

ب. العلاقة الثانية: سيرورة التكوين (المدرس ↔ المتعلم)

  • وصف العلاقة: هي العلاقة المباشرة بين المدرس والمتعلم، وتسمى العلاقة البيداغوجية (Relation pédagogique).
  • الوظيفة: تهدف تدخلات المدرس هنا إلى توجيه سلوك المتعلم نحو غاية ما، وتتعدد أشكال هذا التدخل من شرح وتبسيط وتكليف وتوجيه. هذه العلاقة ضرورية للتربية والتوجيه بشكل عام.
  • النمط السائد: عندما تسود سيرورة التكوين، نكون أمام بيداغوجيا التحرر أو التحديث. وهنا، تصبح المعرفة هي القطب الغائب (الميت)، ويتم التركيز على العلاقة الإنسانية والتوجيهية على حساب المحتوى العلمي.

ج. العلاقة الثالثة: سيرورة التعلم (المتعلم ↔ المعرفة)

  • وصف العلاقة: هي العلاقة بين المتعلم والمادة الدراسية، وتسمى علاقة التعلم (Relation d’apprentissage).
  • الوظيفة: يحتاج المتعلم في هذه السيرورة إلى الدافع، والثقة، والراحة، حيث ينخرط بنفسه في بناء المعرفة واكتسابها من خلال مجهوده الذاتي.
  • النمط السائد: عندما تسود هذه السيرورة، نكون أمام التربية الجديدة (التربية الفعالة/بيداغوجيا الأهداف). وفي هذه الحالة، يصبح المدرس هو القطب الغائب (الميت)، حيث يتقلص دوره بشكل كبير ليصبح مجرد مُيسّر، ويكون المتعلم هو من يحدد مسار تعلمه.

3. دور فيليب ميريو: الأبعاد الثلاثة التي تحكم التفاعل

أضاف الباحث فيليب ميريو (Philippe Meirieu) بعداً أعمق لفهم هذه الأقطاب، مشيراً إلى أن البيداغوجيا هي مزيج محكوم بثلاثة أقطاب مرجعية تؤثر على كيفية تفاعل المدرس والمعرفة والمتعلم:

أ. القطب الإبستمولوجي

يتعلق هذا القطب بما وراء المعرفة ذاتها. يشير إلى مجموع المعارف والعلوم (علم النفس، علم الاجتماع، علم الطب) التي تعلمَنا كيف نحقق التعلمات. هو الذي يحدد الغايات البعيدة للتربية (الغايات الفلسفية، والسياسية، والاجتماعية). بمعنى آخر، هو “لماذا” نُعلّم هذا بالذات.

ب. القطب السيكولوجي

يهتم هذا القطب بكل ما يخص الجانب النفسي والسيكولوجي للمتعلم، من حيث استعداداته العقلية وقدراته على الاستيعاب وتكوين التمثلات (التصورات القبلية). هو الذي يوجه المدرس لكيفية معالجة المعلومة لتناسب عقل المتعلم في مرحلته العمرية.

ج. القطب العملي

يركز هذا القطب على الجانب العملي والملموس والمؤسساتي، وهو قطب الاقتراحات والأدوات. يضم كل الأدوات والمواقف التعليمية التي تتوفر لضمان نمو المتعلمين وتنمية مكتسباتهم، مثل ضغوط وضعيات التكوين (الوقت، المنهاج، الفروق الفردية).

4. كيف نحقق التوازن في المثلث البيداغوجي؟

يُظهر نموذج هوساي أن أي تركيز مفرط على قطب واحد سيؤدي حتماً إلى تهميش القطب الثالث وإبطال مفعوله، وبالتالي فشل العملية التعليمية في تحقيق أهدافها الشاملة. مثلاً، الاهتمام بالمعرفة فقط على حساب المتعلم يجعله متلقياً سلبياً، والتركيز على العلاقة بين المدرس والمتعلم فقط دون محتوى علمي (المعرفة) يحول الفصل إلى جلسة توجيه مجردة.

إن نجاح العملية التعليمية يكمن في سعي المدرس المستمر إلى تحقيق الانسجام والتوازن بين الأقطاب الثلاثة، وهو ما أسماه ميريو بـ “المعجزة”. يجب أن تكون هناك شبكة تفاعل وتواصل تجعل المدرس يتخلى عن دوره التلقيني ليتحول إلى مُوجّه ومُنشّط، ويشارك المتعلم بفعالية في بناء المعرفة. هذا التوازن هو الذي ينقل التعليم من مجرد نقل للمعلومات إلى فعل تربوي شامل وفعال.

إقرأ ايضا: ملخصات جميع دروس البيداغوجيا

خاتمة

يبقى المثلث البيداغوجي نموذجاً تحليلياً لا غنى عنه لفهم دينامية الفصل. إنه يُذكّر كل مربٍّ بأن دوره ليس أحادي الجانب، بل يقع عند نقطة التقاطع بين ضرورة نقل المعرفة (الديداكتيك)، ومتطلبات النمو الإنساني للمتعلم (البيداغوجيا)، ومنطق المادة الدراسية (الإبستمولوجيا). إن الوعي بسيرورات التعليم، والتكوين، والتعلم، يُمكّن المربين من تجاوز الأنماط التقليدية والتوجه نحو بيداغوجيات أكثر فعالية ومركزية للمتعلم.

لمزيد من الشرح والتفصيل حول هذا النموذج التربوي، يمكنك مشاهدة عرض تربوي: مثلث أوساي البيداغوجي Le triangle pédagogique الذي يوضح هذه العلاقة بشكل بصري وعميق.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *