تعريف بيداغوجيا التحرر: الرواد – المبادئ

تعد بيداغوجيا التحرر، أو التعليم التحرري، نموذجاً تربوياً لا يهدف فقط إلى نقل المعرفة، بل إلى تغيير الوعي وبناء مجتمع أكثر عدالة، هذه المقاربة، التي تُركّز على الإنسان المقهور وتجاربه، ترفض بشدة الممارسات التعليمية التقليدية التي تحوّل المتعلم إلى وعاء فارغ يتم ملؤه بالمعلومات، والتي أطلق عليها روادها اسم “التربية البنكية”.

هذا المقال سيكشف تعريف هذه البيداغوجيا، أبرز روادها الذين قادوها فكراً وتطبيقاً، والمبادئ الثورية التي ترتكز عليها.

1. تعريف بيداغوجيا التحرر

يمكن تعريف بيداغوجيا التحرر بأنها: فلسفة تربوية ومنهجية عمل تهدف إلى تسليح الإنسان المقهور بأدوات الوعي النقدي، ليتمكن من فهم واقعه، وتحدي علاقات القوة والسيطرة الجائرة، والمشاركة في بناء مجتمع أكثر إنسانية وعدالة.

أ. رفض “التربية البنكية” (النموذج التقليدي)

يرى الفيلسوف البرازيلي باولو فريري، أحد أبرز رواد هذا التوجه، أن التربية التقليدية تعمل على التدجين والحفاظ على الوضع القائم، ويشبهها بـ “التربية البنكية”، وفي هذا النموذج، تسير العملية كالتالي:

  1. المعلم هو المالك: المعلم يعرف كل شيء، والطلاب لا يعرفون شيئاً.
  2. المتعلم وعاء سلبي: الطلاب عبارة عن “أوعية” أو “حسابات بنكية” يجب ملؤها بالمعلومات من قبل المعلم (المودِع) من أجل حفظها واسترجاعها لاحقاً.
  3. المعرفة هدية ساكنة: تُقدم المعرفة كهدية من المعلم للسلبية الطلاب، وهي معرفة جامدة وساكنة لا ترتبط بحياة المتعلم أو واقعه الاجتماعي.

هذه التربية، حسب فريري، تعتبر الطلبة أشياء يمكن تشكيلها والسيطرة على فكرها، وتخنق الإبداع الضروري لمواجهة البنى الجائرة.

ب. تبني “تربية طرح المشكلات” (النموذج التحرري)

في المقابل، تدعو بيداغوجيا التحرر إلى نموذج “تربية طرح المشكلات”، حيث يتحول الدور التعليمي إلى عملية بحث مشتركة:

  • المعلم والمتعلم معاً: المعلم لا يعلم كل شيء، والمتعلم لا يجهل كل شيء، بل الجميع يشارك في عملية اكتشاف المعرفة.
  • المعرفة فعل حياة: يتم اختيار المحتوى التعليمي من خلال الحوار حول المشكلات المحسوسة في واقع المتعلمين.
  • الهدف هو الوعي الناقد: الهدف الأسمى هو تطوير الوعي الناقد لدى المتعلمين، وتمكينهم من التخلي عن الوعي الزائف أو القدري، ورؤية إمكانية التغيير الاجتماعي.

2. رواد بيداغوجيا التحرر

تأثرت هذه البيداغوجيا بشكل كبير بفكرين رئيسيين، أحدهما ركز على البعد السياسي والاجتماعي (فريري)، والآخر على البحر النفسي والحرية الفردية (نيل).

أ. باولو فريري (Paulo Freire)

يُعدّ المفكر البرازيلي باولو فريري (1921–1997) الأب الروحي لبيداغوجيا التحرر.

  • الكتاب المؤسس: قام بتأسيس فلسفته في كتابه الشهير “بيداغوجيا المقهورين” (Pedagogy of the Oppressed)، الذي أصبح دليلاً توجيهياً لكل حركات التغيير الاجتماعي والتربوي.
  • الفعل والتأمل (Praxis): ركز فريري على ضرورة العلاقة الديالكتيكية بين الفعل والتأمل (Praxis)، حيث يؤدي الفعل (العمل في الواقع) إلى تأمل نقدي (فهم الواقع)، وهذا بدوره يدفع إلى فعل جديد (تغيير الواقع).

ب. ألكسندر نيل (A.S. Neill)

يُعدّ ألكسندر نيل مؤسس مدرسة سمر هيل (Summerhill) في إنجلترا، والتي تُعتبر مثالاً بارزاً على البيداغوجيا اللاتوجيهية.

  • المدرسة اللاتوجيهية: سادت كثيراً من المدارس الخاصة في أوروبا وأمريكا، وتقوم على مبدأ أن الطفل يمتلك رغبة تلقائية في التعلم دون إجبار أو إكراه خارجي.
  • التركيز: ركز نيل على بيداغوجيا التحرر من الجانب النفسي والسلوكي، حيث تمنح المدرسة المتعلم القدر الكافي من الحرية الجسمية والعقلية والتعبيرية، بهدف تحقيق الذاتية وتطوير الطاقات الكامنة واستثمارها في التعلم.

3. مبادئ بيداغوجيا التحرر

لتحقيق التحرر من القهر أو التدجين، ترتكز هذه البيداغوجيا على مبادئ عملية وفلسفية:

أ. مبدأ الحوار كآلية للتعلم

الحوار هو الآلية الأساسية في التربية التحررية، إنه يتجاوز مجرد تبادل المعلومات ليصبح حواراً حقيقياً بين المعلم والطلبة، يهدف إلى التغلب على علاقات السيطرة. الحوار الحقيقي يجب أن يقوم على خمسة جوانب رئيسية:

  1. التواضع: اعتراف المعلم بأنه لا يمتلك المعرفة المطلقة.
  2. الحب والتعاطف: الالتزام الأخلاقي تجاه المتعلم كإنسان.
  3. الأمل: الإيمان بقدرة المتعلم على التغيير والتطور.

ب. التعلم بالخبرة وتعلم الحياة من خلال الحياة

تؤكد هذه البيداغوجيا على مبدأ تعلم الحياة بالحياة نفسها، أي بواسطة الخبرة الفعلية، يتم توظيف نشاطات الطفل واهتماماته في عملية التعلم، مع التركيز على استثمار الطاقات الكامنة وتطويرها، وهو مبدأ مشترك بين منهج روجرز ونيل.

ج. تحقيق الذات والانفتاح على الشخصية

هدف العملية ليس الشهادة أو الدرجات، بل تحقيق الذاتية وتطور وبناء الشخصية ونموها وإبداعها، تتطلب هذه البيداغوجيا أن يكون المعلم موضوعياً، يحترم التلميذ بلا شروط مسبقة، ولا يتعامل من خلال قيمه أو سلطته، مما يمنح المتعلم الشعور بالثقة ويفتح له المجال للتعبير الحر.

د. التربية كعملية سياسية (التغيير الاجتماعي)

التربية في جوهرها عملية سياسية؛ فهي إما تعمل على الحفاظ على الوضع القائم (التدجين)، أو تعمل من أجل التحرر وبناء مجتمع أكثر عدالة، لذلك فإن غايات التربية يجب أن تكون واضحة وموجهة نحو نوع المجتمع ونوع المستقبل البشري الذي نطمح إليه.

إقرا المزيد: ملخصات جميع دروس البيداغوجيا

خاتمة: البيداغوجيا اللاتوجيهية ومستقبل الوعي

تمثل بيداغوجيا التحرر تحولاً عميقاً في النظرة إلى دور المدرسة، فبدلاً من أن تكون ثكنة عسكرية إلزامية، تتحول إلى مدرسة الالتزام والمواطنة الحقة، من خلال تبني مبادئ الحوار النقدي والحرية المسؤولة، يتخلى المعلم عن سلطته المطلقة ليصبح مُيسّراً، ويتحول المتعلم من مقهور إلى واعٍ ومبدع، قادر على المشاركة الفعالة في صياغة واقعه ومستقبله، إنها دعوة لتسليح الإنسان بأدوات التفكير التي تتحدى منطق القوة والقهر، نحو وعي نقدي دائم.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *