يمثل النظام التعليمي في المغرب ركيزة أساسية للتنمية البشرية والاجتماعية، لكنه يواجه تحديًا بنيويًا ومعقدًا يتمثل في ظاهرة الهدر المدرسي والانقطاع عن الدراسة. تُسلط الوثائق التربوية والاجتماعية الضوء على أن هذه الظاهرة ليست مجرد مشكلة مدرسية، بل هي قضية سوسيولوجية اقتصادية بامتياز، تتطلب استراتيجيات متكاملة تبدأ من المدرسة وتنتهي في قلب الأسرة والمجتمع.
فهرس المقال
تحديات الهدر المدرسي: أرقام ودلالات سوسيو-اقتصادية
تُظهر البيانات المُسجلة تفاوتًا واضحًا ومقلقًا في نسب الانقطاع عن الدراسة بين الذكور والإناث، وخصوصًا في مراحل التعليم الأساسية، ففي الوسط القروي، على سبيل المثال، تسجل الإناث نسب انقطاع أعلى في بداية المسار الدراسي (الابتدائي)، مقابل 5.6% للإناث و 4% للذكور، بينما يرتفع الفارق بشكل حاد عند الانتقال من الابتدائي إلى الإعدادي، حيث يجد الذكور صعوبة أكبر مقارنة بالإناث، لتصل نسبة الانقطاع إلى 23.4% لدى الإناث مقابل 13.6% لدى الذكور، هذا التباين يؤكد الطبيعة المركبة للظاهرة التي تتأثر بالنوع (الجنس)، والمرحلة التعليمية، وبالبيئة (الوسط القروي).
تعود الأسباب الجذرية لهذه الظاهرة، وفقاً للتحليل السوسيولوجي للتعليم، إلى الفوارق السوسيو-اقتصادية التي تعيشها الأسر، حيث يُعد الفقر وعدم القدرة على تغطية تكاليف التمدرس، بالإضافة إلى الحاجة إلى عمل الأبناء لمساعدة الأسرة، من أهم العوامل التي تدفع بالتلاميذ لمغادرة مقاعد الدراسة، كما تلعب العوامل المرتبطة بالمدرسة نفسها دوراً، مثل ضعف البنية التحتية أو صعوبة التحصيل، ما يؤدي إلى الفشل الدراسي والشعور بالإحباط.
دور برامج الدعم الاجتماعي في تعزيز تكافؤ الفرص
في مواجهة هذه التحديات، اعتمد المغرب استراتيجية وطنية قوية تركز على برامج الدعم الاجتماعي للتعليم كآلية أساسية للحد من الهدر المدرسي وضمان تكافؤ الفرص، ومن أبرز هذه المبادرات:
- برنامج “تيسير” للدعم المالي المباشر:يمثل هذا البرنامج محور الارتكاز في سياسة الدعم، وقد أدى اعتماده إلى ارتفاع عدد المستفيدين بشكل ملحوظ، ففي الفترة ما بين 2017 و 2019، ارتفع عدد المستفيدين ليبلغ 1.118.471 خلال الموسم الدراسي 2019-2020، مقارنة بـ 936.172 مستفيد خلال 2017-2018، وهو ما يؤكد فعالية الدعم المالي في تحفيز الأسر على إبقاء أبنائها في المدرسة.
- المنح الملكية للوسط القروي:توسعت الاستفادة من هذه المنح، حيث بلغ عدد المستفيدات والمستفيدين من “مليون محفظة” و”الوسط القروي” نحو 121,634 في 2019-2020، مقابل 109,702 في 2017-2018، ما يشير إلى التزام الدولة بدعم التعليم في المناطق التي تعاني من الهشاشة.
- خدمات النقل المدرسي والمطاعم المدرسية:تُعتبر هذه الخدمات حاسمة، خاصة في الوسط القروي، للحد من بُعد المسافة كعامل رئيسي للانقطاع، فقد ارتفع عدد المستفيدات من المطاعم المدرسية إلى 525,073 مستفيدة في 2019-2020، مقابل 507,469 سنة 2017، كما ارتفعت نسبة نجاح الفتيات في صفوف البكالوريا، حيث فاقت 77% في سنة 2020 على المستوى الوطني، مما يدل على الأثر الإيجابي للجهود المبذولة في تشجيع تمدرس الفتيات تحديداً.
المدرسة كفضاء للارتقاء الاجتماعي والقيمي
لم تقتصر استراتيجية الإصلاح على الدعم المادي، بل شملت البعد القيمي والسوسيولوجي للمدرسة، فالنظام التعليمي يسعى لتحقيق عدة مجالات كبرى:
- التربية على القيم: تهدف المنظومة إلى تعزيز القيم الأساسية مثل العدالة الاجتماعية، والمساواة، وثقافة الحقوق والواجبات، ما يُنشئ أجيالاً قادرة على الاندماج الاجتماعي والثقافي.
- تجاوز الفوارق وتكافؤ الفرص: العمل على تكييف المناهج والبرامج لدمج الفئات ذات الاحتياجات الخاصة، ومحاربة الصور النمطية السلبية المتعلقة بالمرأة وذوي الإعاقة.
- المجال الرقمي والإعلامي: الاستثمار في الوسائط المعلوماتية والثقافة الرقمية لضمان تنوع أنشطة التربية على القيم، وتعزيز العلاقة بالمعرفة.
- مدرسة للعدالة الاجتماعية: يؤكد هذا التوجه على ضرورة تخطي الفوارق الاجتماعية والاقتصادية الموجودة بين التلاميذ، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي داخل المؤسسات.
استراتيجيات متكاملة لمواجهة العنف والإقصاء
الجهود المبذولة تتجاوز مجرد الحضور الجسدي في الفصول الدراسية، لتشمل خلق بيئة مدرسية سليمة وداعمة:
- برامج الدعم النفسي والاجتماعي: من خلال تعبئة موارد الدعم النفسي والاجتماعي داخل المؤسسات التعليمية لمساعدة التلاميذ على تجاوز العوائق السوسيو-اقتصادية والنفسية.
- مكافحة العنف المدرسي: اعتماد سلوكيات وقائية وتدريب الأطر التربوية على تدبير الخلافات، وتنمية روح المواطنة والعيش المشترك، بالتنسيق مع مختلف الشركاء الاجتماعيين والأمنيين.
- التربية على القيم والوقاية: تتضمن الاستراتيجية أنشطة للتحسيس بمخاطر المخدرات ومكافحة العنف بالوسط المدرسي، وإدماج ثقافة حقوق الإنسان والسلوك المدني في المناهج.
إقرا أيضا: شرح نظريات سوسيولوجيا التربية – ملخص شامل
في الختام، يتبين أن معالجة مشكلة الهدر المدرسي في المغرب هي معركة متعددة الأوجه، تقودها الحكومة بالاعتماد على برامج الدعم الاجتماعي كبرنامج تيسير، والاستثمار في تجويد الحياة المدرسية من الناحية القيمية والبيداغوجية. الهدف الأسمى هو تحويل المدرسة المغربية إلى مدرسة تكافؤ الفرص ومختبر للارتقاء الاجتماعي، يمكن فيه لكل تلميذ، بغض النظر عن خلفيته، أن يحقق طموحاته، ويدعم هذا التوجه ضرورة توفير الشفافية وتحسين آليات الاستفادة من الدعم لضمان وصوله إلى مستحقيه الفعليين.
قد تجد المزيد من التفاصيل حول الأبعاد السوسيولوجية لظاهرة الانقطاع عن الدراسة في هذا الفيديو: تحليل عوامل الهدر المدرسي في المغرب.



