دينامية الجماعات: التعريف – الأسس

هل تساءلت يوماً لماذا يتغير سلوكك عندما تكون جزءاً من مجموعة؟ أو كيف تتكون القوانين غير المكتوبة التي تحكم أي فريق عمل أو عائلة أو حتى مجتمع؟ الإجابة تكمن في دينامية الجماعات (Group Dynamics)، وهو علم يفسر لغز التفاعل البشري داخل المجموعات.

يعد هذا الموضوع حجر الزاوية في علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع، وله تطبيقات عملية في كل مجال، من الإدارة والتربية إلى العلاج النفسي، دعونا نغوص في أعماق هذا المفهوم لنفهم تعريفه الدقيق وأسسه الجوهرية التي تبني أي جماعة.

1. تعريف دينامية الجماعات

مصطلح دينامية الجماعات هو مزيج من كلمتين تحملان معانٍ عميقة:

أ. مفهوم الدينامية (Dynamics)

كلمة “دينامية” مشتقة من كلمة يونانية تعني القوة والحركة والحيوية، في الفيزياء، تشير إلى العلاقة بين القوى والحركات الناتجة عنها.

أما في السياق الاجتماعي والنفسي، فالـ “دينامية” هي: مجموع التفاعلات والقوى الإيجابية والسلبية التي تتحكم في سير الجماعة باستمرار، وتجعلها في حالة تغير وحركة دائمة وليست في حالة ثبات أو سكون.

ب. مفهوم الجماعات (Groups)

الجماعة ليست مجرد تجمع عشوائي للأفراد، هي وحدة اجتماعية تتكون من شخصين أو أكثر، يتم بينهم تفاعل اجتماعي وعلاقات متبادلة، ويسعون لتحقيق أهداف وقيم مشتركة، وجود الهدف المشترك والتأثير المتبادل هما ما يميز الجماعة الحقيقية عن مجرد الحشد أو التجمع الزمني المؤقت.

ج. التعريف الاصطلاحي لـ “دينامية الجماعات”

يعود الفضل في بلورة هذا المفهوم إلى عالم النفس الاجتماعي الألماني كورت لوين (Kurt Lewin) في عام 1944.

دينامية الجماعات تُعرّف بأنها:

“الدراسة العلمية المنهجية للقوى التي تحرك الجماعة وتؤثر في سلوكها وتكوينها وتطورها، والقوانين التي تحكم التفاعلات والعلاقات بين أعضائها، وكيفية تأثير الجماعة على سلوك الفرد وتأثرها به.”

باختصار، هي محاولة لفهم آلية العمل الداخلية لأي مجموعة، وكيف تتشكل الأدوار، وتُتخذ القرارات، وتنشأ الصراعات، ويتحقق التماسك.

2. الأسس والمرتكزات الجوهرية للجماعة

لفهم دينامية أي جماعة، يجب النظر إلى الأسس التي تُبنى عليها، وهي العوامل التي تحول مجرد الأفراد إلى “وحدة متفاعلة” ذات كيان وشخصية مستقلة. ووفقًا لعلماء مثل ياجيس Pagès، فإن هذه الأسس تضمن وجود كيان متماسك وقادر على البقاء والتطور:

أ. الوحدة العاطفية (Unité Affective)

هذا هو جوهر أسس الجماعات وأهمها على الإطلاق، إنه الشعور السائد والمشترك الذي يتقاسمه جميع الأفراد داخل المجموعة.

  • قد تكون هذه الوحدة عاطفية “إيجابية” مثل التعاطف، أو الشعور بالانتماء، أو الحماس المشترك نحو الهدف (عدوى عاطفية).
  • وقد تكون “سلبية” مثل الخوف المشترك، أو الدفاع ضد القلق من الانفصال، أو الارتياب المتبادل.
  • يُعد هذا الشعور بمثابة دفاع ضد الإحساس بالوحدة والفردية المفرطة، حيث يجد الفرد في المجموعة ملاذاً وأمناً عاطفياً.

ب. عقل الجماعة (Esprit de groupe)

إنه الوعي المشترك الذي يتجاوز وعي الأفراد، عقل الجماعة هو ما يمكّن المجموعة من التفكير والتصرف كوحدة واحدة، حيث تصبح قادرة على صياغة أهدافها وقيمها ومعاييرها الداخلية الخاصة.

هذا المفهوم يساعدنا على فهم “شخصية الجماعة (Personnalité groupale)” التي تتشكل من خلال:

  • المعايير والقيم المشتركة: ما هو مقبول وما هو مرفوض.
  • خطة العمل والتنظيم: كيفية تحقيق الهدف المتفق عليه.
  • درجة التوافق: مدى اتفاق الميول الأساسية لكل فرد مع أهداف المجموع.

ج. المركزية القيادية (الشخص المركزي – Le Personne Centrale)

كل جماعة، حتى وإن كانت تبدو أفقية، تتشكل حول مركز أو “شخص مركزي (PC)” غير مُعلَن بالضرورة، لكنه الأكثر تأثيرًا في الأعضاء المحتملين، الشخص المركزي هو محور العواطف والتفاعلات، لا يشترط أن يكون هو القائد الرسمي، بل هو الشخص الذي:

  • يُجسد الخصائص والتوجهات الداخلية التي يمكن تحديدها في تنظيم الجماعة.
  • يؤثر في علاقات الأعضاء وتكوين الجماعة من خلال علاقته بهم.
  • يمكن أن يتخذ أدواراً مختلفة، مثل الملك البطريارك (Le Souverain Patriarche) الذي يمثل الحب والحنان والأمن (في علاقته التي تشبه الأب أو الأستاذ)، أو البطل (Le Héros) الذي يتميز بتطوير “الأنا” ويكسر قاعدة محظورة يرغب فيها الآخرون سراً.

هذه الأدوار الدينامية، مثل دور المنظم الجذاب (Le Séducteur) أو القائد (Le Leader)، تظهر التفاعلات المستمرة بين “الأنا” الفردية و”الأنا الأعلى” الجمعية التي يدمجها الأعضاء في شخصيتهم.

3. أهمية دراسة دينامية الجماعات

إن فهم هذه الدينامية يكتسب أهمية قصوى للأسباب التالية:

  1. تحسين الأداء: معرفة القوى الدافعة تمكن من توجيهها نحو الأهداف المشتركة وتحقيق التكامل والتعاون المثمر.
  2. إدارة الصراع: فهم مصدر التوتر والسلوكيات المختلفة (كصراع الأنا بين الأعضاء) يساعد على إدارة الخلاف وتحويل الصراع الشخصي إلى نقاش معرفي بناء.
  3. النمو الشخصي والاجتماعي: الجماعة توفر بيئة للتعلم والتكوين، وتساعد الفرد على إشباع حاجاته النفسية والاجتماعية، وتشكيل هويته في سياق التفاعل مع الآخرين.

إقرا أيضا: سيكولوجيا النمو: التعريف – النظريات

في الختام، دينامية الجماعات ليست مجرد نظرية أكاديمية، بل هي مفتاح فهم حياتنا اليومية في العمل والمنزل والمدرسة، إنها القوة والحركة التي تشكل سلوكنا وتفاعلاتنا وتحدد مصير أي وحدة اجتماعية، من أصغر فريق إلى أكبر مجتمع.

هذا الفيديو يتناول دينامية الجماعة: تعريفها وأنواعها وآثرها على الفرد، وهو محتوى سمعي بصري يدعم ويشرح المادة المعرفية المقدمة في المقال حول تعريف وأسس هذا العلم.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *