تعد البيداغوجيا المؤسسية واحدة من المقاربات التربوية الحديثة التي نقلت التعليم من كونه مجرد نشاط فردي داخل الفصل إلى عملية جماعية ومنظمة تشمل كل أركان المؤسسة التعليمية.
فهرس المقال
بدلاً من اقتصار مسؤولية الإصلاح على المدرس وحده، تجعل هذه البيداغوجيا المدرسة بأكملها فضاءً بيداغوجياً وموضوعاً للتحليل والتغيير المستمر.
إن الكلمة المفتاحية البيداغوجيا المؤسسية تشير إلى فلسفة تهدف إلى تحويل المؤسسة التعليمية من مجرد مبنى إداري يطبق مقررات جاهزة، إلى مجتمع تربوي صغير يشارك فيه الجميع (مدرسون، متعلمون، إدارة، أولياء أمور) في صياغة الأهداف وتنفيذها.
هذا التوجه يسعى إلى إعادة القيمة إلى المدرسة وتحقيق الشعور بالانتماء إليها، وهو ما يدعم جهود الجودة الشاملة في التعليم.
1. تعريف البيداغوجيا المؤسسية (Pédagogie Institutionnelle)
يمكن تعريف البيداغوجيا المؤسسية بأنها: مقاربة بيداغوجية تعمل على تحليل وتغيير العلاقات والتنظيمات الداخلية للمؤسسة التعليمية، بهدف جعل المتعلمين والفاعلين يشاركون في تسيير هذه المؤسسة ومجالسها، مما يحقق دمقرطة الفعل التربوي ويجعله نشاطاً جماعياً مخططاً.
الأساس الفكري للمؤسسية
تستمد هذه البيداغوجيا جذورها من تيار البيداغوجيات الحرة والتحررية، ولكنها تختلف عنها في كونها لا تنادي بالفوضى أو الحرية المطلقة، بل تهدف إلى تنظيم الحرية والعمل الجماعي ضمن أطر مؤسسية واضحة، إنها تقوم على فكرة أن المؤسسة هي نظام تربوي له غايات ومؤسسات، ويجب أن يرتكز على مبدأين أساسيين:
- التحليل الذاتي: تحليل دينامية المؤسسة وعلاقات القوة فيها.
- الإشراك الفعال: إشراك المتعلمين والمدرسين في وضع القواعد والنظم الداخلية، مما يضمن التزامهم بها (وهو ما يُعرف بـ البيداغوجيا التعاقدية على مستوى المؤسسة).
البيداغوجيا المؤسسية في رؤية فيليب ميريو
يعرف فيليب ميريو البيداغوجيا بكونها “نشاطاً جماعياً يعمل على التحيين الدائم لمشروعها المؤسس”، هذا التعريف يؤكد أن البيداغوجيا المؤسسية تنظر إلى التدريس على أنه:
- نشاط جماعي: يتطلب مشاركة جميع الأطراف.
- تحيين دائم: عملية مستمرة من التخطيط والمراجعة والتطوير.
- مشروع مؤسس: يعتمد على غايات واضحة ومحددة مسبقاً للمؤسسة ككل.
2. رواد البيداغوجيا المؤسسية وتطبيقاتها
البيداغوجيا المؤسسية ليست نتاج شخص واحد، بل تيار ظهر في سياق التجارب الميدانية في أوروبا، وخصوصاً في فرنسا، متأثراً بفلسفة البيداغوجيا التعاونية والتحررية، وقد طُبقت هذه البيداغوجيا في المدارس المؤسسية بأوروبا.
أ. رواد المؤسسة والتسيير
ارتبط هذا التوجه بأسماء مثل جان أوري (Jean Oury) وفرناند أوري (Fernand Oury)، الذين نقلا تجربة سلستان فريني في التعاون والعمل الجماعي إلى إطار مؤسسي أكثر تنظيماً، حيث ركزا على:
- مؤسسات القسم (Les Institutions de la Classe): خلق بنى داخل القسم يقوم الطلاب بتسييرها (مثل مجالس الأقسام، أو مجالس التعاون)، ليتعلموا بذلك تحمل المسؤولية والمشاركة في الحكم الذاتي.
- دور المحلّل والمراقب: لم يعد المدرس مجرد مُلقّن، بل أصبح محلّلاً لدينامية المجموعة ومراقبًا للعلاقات القائمة على السلطة والتسلط، محاولاً تعديلها لتصبح علاقات تعاون ومشاركة.
ب. المدارس المؤسسية (نموذج التطبيق)
البيداغوجيا المؤسسية سعت إلى تنظيم كل الجوانب المدرسية لتخدم العملية التربوية، من خلال:
- مجالس المؤسسة: التأكيد على أن المجالس الإدارية والتربوية (مثل مجلس التدبير، والمجلس التربوي، والمجالس التعليمية) هي آليات للتدبير التربوي والمالي والإداري، يجب أن يتم تفعيلها لتحقيق أهداف المؤسسة.
- مشروع المؤسسة: النظر إلى المدرسة بأكملها كـ “مشروع تربوي” يتطلب تضافر جهود الجميع (المتعلمين، المدرسين، الإدارة، المحيط) لتحقيق أهداف محددة.
3. المبادئ الأساسية للبيداغوجيا المؤسسية
تقوم البيداغوجيا المؤسسية على مجموعة من المبادئ التي تضمن تحويل المؤسسة إلى فضاء مرن وفعّال لتمكين المتعلم:
أ. مبدأ الإشراك والقرار المشترك
المبدأ الأساسي هو الإشراك الفعلي للمتعلم في تسيير الحياة المدرسية، المتعلم لم يعد يُنظر إليه كـ “شخص يُطبق”، بل كـ “شخص يُشارك في صياغة القاعدة”. هذا الإشراك يضمن له الشعور بالانتماء والقيمة، ويؤدي إلى انخراط والتزام أكبر بالقواعد التي ساهم في وضعها.
ب. مبدأ التحيين الدائم والمراجعة الذاتية
تُعدّ المؤسسة وفق هذا المنظور ممارسة تبصرية، أي أنها تقوم باستمرار بتقييم ذاتها وتحديث نظامها، هذا يتطلب من المدرسين العمل على التحيين الدائم لـ مشروعها المؤسس، مما يجعل المدرسة قادرة على التكيف مع التغيرات الاجتماعية وتحديات الجودة التعليمية.
ج. مبدأ دمج البيداغوجيات الفعالة
البيداغوجيا المؤسسية هي في جوهرها جامعة لمختلف البيداغوجيات الحديثة، فهي تستثمر:
- البيداغوجيا الفارقية: لضمان تكافؤ الفرص ومراعاة الفروقات المعرفية والسوسيوثقافية بين المتعلمين.
- بيداغوجيا المشروع: لتنظيم العمل المشترك وتحقيق الأهداف من خلال الإنجازات الملموسة.
- بيداغوجيا التعاقد: لتنظيم العلاقات الداخلية وضمان التزام الجميع بأدوارهم ومهامهم.
د. مبدأ المعنى والانتماء
تهدف البيداغوجيا المؤسسية إلى إعادة القيمة إلى المدرسة وتحقيق الشعور بالانتماء إليها، عندما يفهم المتعلم لماذا يدرس (القصديّة)، وما ملامح الخريج المرجوة، يشعر بالمعنى والجدوى، ويصبح التعلم عملية ذاتية وطوعية وليست مجرد إجبار خارجي.
خاتمة: المؤسسة كفضاء للقيادة المشتركة
تمثل البيداغوجيا المؤسسية قفزة نوعية في التفكير التربوي، حيث تنظر إلى المؤسسة التعليمية كـ مجتمع تربوي يمارس فيه الجميع القيادة المشتركة. من خلال الإشراك في التسيير ووضع النظم، يتحول الطالب من متلقٍ للمعلومات إلى فاعل متكامل يمتلك القدرة على اتخاذ القرارات وحل المشكلات داخل بيئته التعليمية، مما يؤهله ليكون مواطناً فاعلاً في مجتمعه الكبير، إنها بيداغوجيا تجعل المدرسة مصدراً للميزة التنافسية والجودة التعليمية الشاملة.
لمزيد من الفهم حول كيفية تسيير هذه المؤسسات ودورها في التعليم، يمكنك مشاهدة فيديو حول مجالس المؤسسة:



